من يحتفل بذكرى 17 فبراير في ليبيا؟
تستعد ليبيا لإحياء الذكرى 13 لأحداث 17 فبراير 2011 في ظل استمرار أزمتها السياسية دون تحديد أية آفاق لمشروع الحل الذي يبدو أنه لا يزال بعيدا بسبب ديمومة الصراع على السلطة وتصدير المصالح الشخصية والفئوية والمناطقية والقبلية على مصالح الدولة والمجتمع، وبسبب تواصل التدخلات الخارجية التي تحولت من تجاذبات على المصالح إلى مواجهة مفتوحة على النفوذ الميداني بما يتجاوز الجغرافيا الليبية في اتجاه مناطق الجوار.
تبدو ملامح المشهد العام واضحة في ليبيا، فهناك ميليشيات مسلحة في المنطقة الغربية تشكّل مراكز نفوذ وقوى اجتماعية واقتصادية، ويتزعمها أمراء حرب يتحكمون في موارد مالية مهمة عبر شبكات تهريب النفط والسلع التموينية والاتجار بالبشر والمضاربة في أسواق العملة والاعتمادات المصرفية وغيرها، وبالمقابل، تخضع المنطقتان الشرقية والجنوبية لسلطات الجنرال خليفة حفتر الذي يدير شؤون الحكم في مواطن نفوذه بالشراكة مع أبنائه في إطار أقرب ما يكون إلى حكم الأسرة الواحدة المستندة إلى حمية قبلية وروابط اجتماعية ممتدة.
وإذا كان مجلس الدولة يتكون من أعضاء تم انتخابهم منذ 12 عاما واستفادوا من عملية إعادة تدويرهم في سياقات إقليمية ودولية معينة ووفق اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015، فإن مجلس النواب جرى انتخابه منذ عشر سنوات، وهو اليوم يمثل السلطة التشريعية الوحيدة المعترف بها دوليا، ويحصل أعضاء المجلسين على امتيازات مالية وسياسية واجتماعية مهمة، وأغلبهم بلغ أو تجاوز سن التقاعد ولا يزال يطمح إلى المزيد من المكاسب، وقد نعتتهم المبعوثة الأممية السابقة ستيفاني وليامز بالديناصورات، وقالت إنهم يرون أن أي تغيير عبر تشكيل سلطة تنفيذية مؤقتة أو إجراء انتخابات وطنية سيمثل نهاية حتمية لامتيازاتهم، ولقدرتهم على الوصول إلى خزائن وموارد الدولة، وبالتالي لوضع حد لنظام المحسوبية الذي طوروه بمهارة خلال السنوات الماضية.
هناك في المشهد كذلك، السلطات الحاكمة حاليا في طرابلس، والتي جاءت عن طريق ملتقى الحوار السياسي قبل ثلاث سنوات، ففي الخامس من فبراير 2021 وفي ظروف شديدة الغموض، وفي ظل اتهامات بالفساد وشراء الأصوات بمبالغ مالية ضخمة لم تنفها الأمم المتحدة، تم انتخاب لائحة محمد المنفي رئيسا للمجلس الرئاسي مع عضوية عبدالله اللافي وموسى الكوني وترشيح عبدالحميد الدبيبة لتشكيل حكومة جديدة تكون مؤقتة ومكلفة بالإشراف على تنظيم الانتخابات التي كانت مقررة للرابع والعشرين من ديسمبر من العام ذاته، ولا تتجاوز مدة صلاحيتها في كل الظروف 18 شهرا، لكن الوضع لم يختلف عن حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج التي أفرزها اتفاق الصخيرات لتقود البلاد لمدة لا تتجاوز في أقصى الحالات العامين، لكن استمرت لخمس سنوات، ولم تغادر السلطة إلا بعد حرب أهلية مدمرة.
وإلى اليوم لا يزال الدبيبة متمسكا بالحكم، ويشترط تنظيم الانتخابات ليتنازل عنه، فيما اعتمد مجلس النواب القوانين الانتخابية ونشرها بالجريدة الرسمية وهو يشترط حل حكومة الدبيبة وتشكيل حكومة جديدة مؤقتة تدير شؤون البلاد وتقودها نحو الاستحقاقين التشريعي والرئاسي. ومن الطبيعي أن يميل مجلس الدولة إلى موقف الدبيبة في إطار منظومة تتفق في ما بينها على أن لا انتخابات رئاسية يمكن أن ينتصر فيها الجنرال حفتر أو سيف الإسلام القذافي، ولا انتخابات برلمانية يمكن أن تقلب الموازين أو تغير المعادلات الحالية.
ومما يزيد من تعقيد الوضع، أن الدبيبة الذي بات عجينة طيعة في يد رئيس دار الإفتاء في طرابلس الصادق الغرياني، يواجه حالة انقسام حادة في مسقط رأسه مدينة مصراتة، طالت حتى تيار الإسلام السياسي وجماعة الإخوان، وأكدت أن الجانب الأكبر من الصراع يدور حول الثروة، وأن عملية النهب التي يتعرض لها المال العام منذ العام 2011 لم يسبق أن عرفتها البلاد، حتى أن ليبيا حلت في المرتبة 170 في مؤشر مدركات الفساد للعام 2023، مرتفعة مرتبة واحدة عن العام 2022 حين جاءت في المرتبة 171 من أصل 180 دولة يشملها المؤشر.
ولم يعد خافيا أن البلاد باتت محل تجاذبات غير مسبوقة، فالقوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة تدعم استمرار الوضع في طرابلس على ما هو عليه في انتظار توفر فرصة حسم الصراع على النفوذ مع روسيا التي تلعب بورقتي حفتر وسيف الإسلام. بل أن الكثير من المعطيات دلت على أن واشنطن ولندن كانتا وراء الحؤول دون تنظيم انتخابات ديسمبر 2021 خشية وصول حلفاء موسكو إلى الحكم، كما أن القوى الغربية هي التي عرقلت جهود اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 عندما وصلت إلى لحظة الحسم في ملف القوات الأجنبية والمرتزقة، وذلك انطلاقا من اعتقادها بأن القوات التركية والمرتزقة الموالين لها يمكن أن يكونوا ضمانة لعدم اتساع نفوذ قوات الجنرال حفتر المدعومة بمسلحي “فاغنر” الروس. ولا تزال إلى اليوم تتلاعب بمبادرة المبعوث الأممي عبدالله باتيلي التي كان قد أعلنها في 23 نوفمبر الماضي، والهدف هو كسب الوقت بما قد يوفر ظروفا أفضل لخدمة الأهداف والمصالح.
المسائل لا تقف عند هذا الحد، ففي ليبيا هناك قمع متزايد لحرية الرأي والتعبير، وهناك تطرف ديني من داخل منظومتي الحكم في طرابلس وبنغازي عبر سلطة الجماعات السلفية المتشددة التي يحاول المسؤولون الحاليون الاعتماد عليها في تكريس سلطاتهم المشكوك في شرعيتها، وهناك خطاب الكراهية الذي لا يزال منتشرا على نطاق واسع وخاصة من قبل الأطراف التي تعمل على احتكار السلطة والثروة وتعتبر نفسها مؤتمنة على “أهداف الثورة”، ويمكن تفسير ذلك بثقافة الإقصاء السياسي ذات الأبعاد الثقافية والاجتماعية، وباستمرار حالة الانقسام سواء داخل مؤسسات الدولة أو في سياقات التحالفات الإقليمية والدولية.
وبعد 13 عاما من انطلاق أحداث فبراير 2011، لا تزال ليبيا تواجه عمليات الاختطاف والإخفاء القسري وصولا إلى جرائم القتل خارج إطار القانون، وهو ما يشكّل دليلا على أن أحد أهم الشعارات التي رفعها معارضو القذافي، وهو تأمين حقوق الإنسان، لم يتحقق، وقد يحتاج إلى فترات طويلة ليصبح جزءا من أجندات الحكام.
ما كان يشتكي منه معارضو القذافي مما كانوا ينعتونه بحكم الفرد، أصبح اليوم نظاما قائما في سياق انقسام بين سلطتين وأحيانا بين سلطات عدة، كل منها يتحرك وفق مزاج الدكتاتورية التقليدية التي لا تصلح ولا تُصلح. لا يقف الأمر عند ذلك، بل هناك تهريب متعمد للثروة، وعقد صفقات مشبوهة على نطاق واسع مع شركات عالمية كبرى، وتبعية مفضوحة للمحاور الخارجية بما يجعل سيادة الدولة الليبية في مهب الريح.
كذلك، لا تزال المصالحة الوطنية بعيدة المنال رغم كل ما قيل ويقال عن المؤتمر المنتظر تنظيمه بمدينة سرت في أواخر أبريل القادم، وعن نتائج اجتماعات اللجنة التحضيرية في طرابلس وبنغازي وسبها وزوارة والزنتان وصولا إلى مصراتة خلال الأيام القادمة، بالإضافة إلى اجتماعات اللجنة الأفريقية رفيعة المستوى المكلفة بالملف الليبي والتي كانت عقدت آخر اجتماعاتها في برازافيل في الخامس من فبراير الجاري بدعوة من الرئيس الكونغولي ديني ساسو نغيسو، وإلى جهود المجلس الرئاسي التي لا يزال يبذلها وفق خطته المعلنة في 9 سبتمبر2021. لكن ذلك لا يمكن أن يكون الشجرة التي تخفي الغابة، فأغلب المؤشرات تدل على أن هناك أطرافا عدة لا ترغب في التوصل إلى المصالحة الشاملة، وخاصة تلك الأطراف المستفيدة من الوضع الحالي، والتي تضع يدها على السلطة وتتعامل مع الثروة الوطنية كغنيمة حرب، والتي تتحدث في العلن عن عملها الدؤوب لطي صفحة الماضي والخروج بالبلاد من النفق المظلم الذي وقعت فيه منذ 13 عاما، فيما تخطط من وراء الستار لعرقلة أية خطوة قد تقود نحو الحل السياسي وتنظيم الانتخابات.
وعرقلة المصالحة يمكن أن تتحقق بواسطة جملة من الآليات من بينها عدم حسم مصير عدد من رموز النظام السابق المحتجزين في السجون منذ 13 عاما، وعدم السماح للنازحين في الداخل والمهجرين إلى الخارج بالعودة إلى ديارهم، وعدم الأخذ بالاعتبار ملف العدالة الانتقالية والاستمرار في اعتماد سياسة الإفلات من العقاب وخاصة عندما يتعلق الأمر بمن سيطروا على الأرض بعد العام 2011 من مسلحين تورطوا في جرائم القتل والنهب والاختطاف والإخفاء السري وغيرها ثم تحولوا إلى قادة أمنيين ومسؤولين حكوميين، وهم اليوم من يصدرون القرارات ويتحكمون في مسارات الأمن والسياسة وفي حركة الأموال من خارج دائرة النظام الرسمي.
يبقى السؤال: من يحتفل بذكرى 17 فبراير؟ النازحون والمهجرون أم الفقراء والمحتاجون؟ السجناء والمحتجزون أم النشطاء الممنوعون من الكلام والملاحقون برصاص المسلحين؟ الثوار الذين خابت آمالهم، أم الوطنيون الذين راهنوا على الحرية والتعددية والديمقراطية ليجدوا أنفسهم في متاهة دكتاتوريات ناشئة بمخالب حادة؟ المستفيدون من المرحلة هم من يحق لهم الاحتفال بالمناسبة، وهم نسبة قليلة من الشعب الذي لا يزال يرى ثرواته تهدر وحقوقه تنتهك، وأصواته ممنوعة من أن تعبر عنه سواء بالتعبير أو بالاقتراع.