موريتانيا الغزواني.. بين تجار الدين والسياسة
الشيخ ولد السالك
ثلاثة ملفات بالغة الأهمية تدور أحداثها حاليا في موريتانيا، تبدو في ظاهرها منفصلة، لكنّ خيطا ناظما يجمعها، هو أنها تحدد ملامح موريتانيا المستقبل، أو ما أفضل، هربا من “موريتانيا الجديدة”، وتسميتها بموريتانيا التي يطمح لها السواد الأعظم من الشعب، الذي نال كل فرد منه نصيبه من المعاناة والقهر، ومزيدا بحظ من نصيب الأجيال القادمة، دون أن ينقص ذلك من نصيبِها شيئا.
أول الملفات، أحداث أزمة الحزب الحاكم “الاتحاد من أجل الجمهورية” أو ما بات يعرف بصراع المرجعية؛ وثانيها حملة وزير الصحة على الأدوية الفاسدة والمنتهية الصلاحية، وثالثها انفتاح رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ ولد الغزواني على المعارضة ولقاؤه أبرز قادتها.
كانت عودة الرئيس السابق محمد ولد عبدالعزيز للمشهد السياسي، للمرة الأولى منذ مغادرته السلطة، مرحلة فارقة في تاريخ الحزب الحاكم؛ ففي يومين فقط عرف الحزب تحولات دراماتيكية، من التهليل لعودة المؤسس والمرجعية إلى التنكر له والبراءة منه!
لم يفاجئنا الأمر كمتابعين، فتاريخ الأحزاب الحاكمة في موريتانيا عوّدنا أنها تتبخّر بقدرة قادر مع خروج الرئيس من القصر الرئاسي؛ إلا أننا كنّا نتوقع أن يختلف الوضع مع حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، لأن مؤسسه سلم السلطة، ظاهريا على الأقل، طواعية لخلفه؛ ولأن الرئيس الحالي رفيقُ دربه، وإن اختلفا في نواح عدة ليس أدناها المرونة السياسية؛ ولكن تلك قصةٌ أخرى ليس المقام مقامَ الخوض فيها.
ما يهم في صراع المرجعية، رغم الضبابية التي لفت كل مشاهده، هو هذه القدرة على التلون التي أظهرتها قيادات الحزب على مستوى هيئاته المختلفة؛ كيف أصبح ولد عبدالعزيز الآن عامل فرقة بعد أن كان هبة السماء لعباد الله الفقراء في موريتانيا؟
شخصيا، وإن كنت غير معني بالأمر ولا يهمني، لا أجد غضاضة في عودة ولد عبدالعزيز للحزب، شريطة ألا يحاول أن يكون مركز نفوذ أو سلطة موازية للسلطة الشرعية التي يمثلها حصريا رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني. ومن الواضح أنّ أطماعَه في السلطة لا تزال قائمة، حتى وإن كانت لا تخدم الأجواء التوافقية التي أرساها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، دون أن يلغي كونَ حزب الاتحاد من أجل الجمهورية هو أكبر داعم لمشروع الرئيس الغزواني في الانتخابات، والمُسهل لمهمة حكومته تشريعيا داخل البرلمان.
الواضح أن الرئيس السابق محمد ولد عبدالعزيز نسي، وهو يعول على قيادات الحزب، أنهم ذات الوجوه التي قادت الحزب الجمهوري، وهياكل تهذيب الجماهير، وحزب الشعب، وألّهت الرؤساء المتعاقبين، ثم لعنتهم يوم سقطوا؛ هم أنفسهم من رضوا بتفقير الشعب، وأثروا من أموال الفقراء، ورسخوا ثقافة نهب المال العام والتخلف والجوع والنفاق والنميمة وشيطنة المعارضة.
هذا الحراك داخل الحزب الحاكم وتنكر قادته لرئيسهم السابق فضحهم أمام الشعب، وكشفهم لرئيس الجمهورية على حقيقتهم، لذلك أصبح لزاما التخلص من هذه الطبقة السياسية العفنة، وإضفاء مسحة أخلاقية على الموالاة كموقف داعم لفكرة ومشروع وليس مهنة استرزاق.
الحدث الثاني كشفَ حقيقة لا تقل أهمية عن سابقتها، إنه الحملة التي يشنها وزير الصحة على الأدوية الفاسدة. حملة تجاوبت معها غالبية الشعب الموريتاني، حيث قلّ أن يوجد بيت موريتاني إلاّ وقد فقدَ أحد أبنائه ضحية لفساد الأدوية وانتهاء صلاحيتها، وإن لم يفقده فقد عانى في سبيل علاجه في مستشفيات تونس أو المغرب أو السينغال، لينفق عليه ما ملكت يمينُه وما ملكت يمينُ الأقارب والعشيرة.
وصل الأمر أن أصبح أهل تونس يطلقون على رحلتهم من موريتانيا (طائرة الإسعاف)، أغلب الأطباء في تونس والمغرب والسنغال اتفقوا على أن أهم سبب لانتشار مرض السرطان في البلد هو هذه الأدوية الفاسدة، لكن الكارثة هنا هي أن أغلب موردي هذه الأدوية هم من منتسبي تنظيم الإخوان، المتظاهرين بالتدين.
لقد بلغت الوقاحة بهؤلاء المتاجرين بالدين المتكسبين ببيع السموم وبإعلامهم حدّ التصدي علنا للحملة التي يقوم بها وزير الصحة على هذه الأدوية القاتلة، استخفافا ونكاية بما لاقته من دعم وترحيب شعبي!
حملةُ وزير الصحة على الأدوية الفاسدة، إن تواصلت بهذه الصرامة وبهذا الدعم الشعبي العارم، ستكون نتيجتها حتما حفظ أرواح المواطنين، وفضح تنظيم الإخوان الذي يرفع شعار الدين ليغتال المواطنين بأدوية مزورة فاسدة أو منتهية الصلاحية، وهو بذلك يمارس عادته وديْدنه في زهق الأرواح، وإن بأسلوب غير تقليدي.
الملف الثالث، والذي لا يقل أهمية عن سابقيه، هو لقاءات الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني مع المعارضة التقليدية في البلاد، وبعض الناشطين السياسيين، والتي كشفت عن سعي جدي منه لأن يكون رئيسا لكل الموريتانيين.
خلقت هذه اللقاءات مناخا سياسيا هادئا، سادت معه أجواء توافقية ربما للمرة الأولى، وأسست لممارسة سياسية راقية، يُحفظ فيها للمعارضة حقها الدستوري في الشراكة والتشاور.. ممارسة لا تمثل فيها المعارضة جرما، ولا تمنح فيها الموالاة حصانة.
هذه الملفات الثلاثة وتطوراتها تؤشر لأمر بالغ الأهمية هو أن تغييرا يجري، وأن البلد في ظل قيادته الحالية سيشهد نقلة سياسية مهمة، يتخلص فيها في الوقت نفسه من أعدائه من الأبناء الفاسدين الذين عرقلوا مسيرته التنموية بإفقار شعبه وتجهيله، وأبنائه الذين مَردوا على بيع الدين، واستغلاله لأغراض سياسية، حتى وإن تطلب الأمر قتل نفس زكية بأدويتهم المزورة الفاسدة.
لا جدال في كون موريتانيا من أغنى البلدان في محيطها الجغرافي، لكنها ابتليت بطبقة سياسية هي الأكثر فسادا في العالم… من يمكنه التصديق أن بلدا يملك ثروات كبيرة من الذهب والنحاس والغاز وأجود حديد في العالم وأغنى شواطئ العالم بالسمك وثروة حيوانية وزراعية كبيرة وعدد سكانه أربعة ملايين نسمة يمكن أن يكون أبناؤه جوعى ومشردين ومهاجرين؟
لبّ المشكل يكمن في الطبقة السياسية المهيمنة، التي لم تضع منذ البدء لبنة قط في بناء البلد.