هل يؤشر فوز ماكرون إلى تراجع اليمين غربيا؟
حميد الكفائي
فاز الرئيس الفرنسي اللبرالي، إيمانويل ماكرون، بولاية ثانية تمتد خمس سنوات، متغلبا على منافسته اليمينية، مارين لابَن، التي حققت تقدما شعبيا تاريخيا للحزب الذي أسسه والدها، جون ماري لابَن.
ولكن هل يؤشر هذا الفوز، الذي كان مصحوبا بتقدم اليمين المتشدد، إلى تراجع هيمنة القوى اليمينية في أوروبا؟ أم أنه يحسب لماكرون شخصيا وما حققه من إنجازات على مستوى فرنسا وأوروبا والعالم؟
لا شك أن ماكرون شخصية لبرالية معتدلة، وقد تمكن بجدارة من تعزيز موقع فرنسا الدولي، وقدرة الاتحاد الأوروبي على الصمود في وجه الصعوبات التي واجهته، سواء عند خروج بريطانيا منه كليا عام 2020، أو تدهور علاقاته مع الولايات المتحدة في ظل حكم الرئيس دونالد ترامب، أو في التعامل مع روسيا اليمينية المتشددة بقيادة الرئيس فلاديمير بوتن.
اعترف ماكرون في خطاباته أثناء الحملة الانتخابية وبعدها، بأن هناك من صوَّت له، ليس لأنه مؤمن بخطه السياسي، بل لأنه أراد أن يمنع مرشحة اليمين المتشدد، مارين لابَن، من الوصول إلى قصر الإليزيه. وقد وعد في خطاب الفوز بأنه سيكون رئيسا لكل الفرنسيين، وليس فقط لأتباعه، بينما قالت لابَن إن الذين صوتوا لها لم يتفقوا بالضرورة مع كل نقاط برنامجها الانتخابي “الرائع”.
ركز ماكرون في حملته الانتخابية في الجولة الثانية على مخاطبة ناخبي اليسار، الذي جاء مرشحه، جون لوك ميلونشون، زعيم حزب “فرنسا الأبية”، في المرتبة الثالثة، في مسعى منه لكسبهم إلى جانبه، باعتباره الأقرب إليهم، لكن بعض الاستطلاعات أشارت إلى أن كثيرين من ناخبي ميلونشون، الذين تجاوز عددهم 7 ملايين ونصف، قاطعوا الجولة الثانية بسبب انزعاجهم من سياسات ماكرون، بل نظَّموا احتجاجا على فوزه، رغم أنه كان وزيرا في حكومة الحزب الاشتراكي في ظل رئاسة فرانسوا أولاند، قبل أن يؤسس حزبه الحالي (الجمهورية تتقدم).
ويتهم اليساريون ماكرون بعدم معالجة أزمة غلاء المعيشة وأنه أصبح “رئيسا للأغنياء فقط”، وسلك سلوكا يمينيا في تعامله مع الإسلام والمهاجرين، وسمح لأعضاء حكومته أن يمارسوا خطابا يمينيا، وهذا، في رأيهم، هو الذي جعل الخطاب اليميني مقبولا لدى شرائح واسعة من الشعب الفرنسي، ودفع كثيرين للتصويت للتيار القومي بزعامة لابَن في الانتخابات الأخيرة.
مع ذلك، فإن جزءا كبيرا من الذين صوتوا لماكرون في الجولة الثانية، في رأي مراقبين، كانوا خليطا من اليساريين واللبراليين والجمهوريين، الذين وحّدهم الخوفُ من وصول اليمين المتشدد إلى السلطة.
لقد تمكنت لابَن من إحراز تقدم غير مسبوق لحزبها “التيار القومي”، (الجبهة القومية سابقا)، إذ صوَّت لها 13 مليون ناخب، أي 41.5% من مجموع المقترعين، مقابل 58.5% لماكرون. ورغم أن لابَن قد خففت من خطابها المتشدد، المعادي للأجانب والمهاجرين، وركزت على معالجة مشكلة غلاء المعيشة، ولكن عبر تفضيل الفرنسيين على المهاجرين والأوروبيين في الوظائف، في مسعى منها لكسب المزيد من الناخبين والوصول إلى السلطة، إلا أن مجمل خطابها بقي تمييزيا ومتشددا وانعزاليا، كحملتها لحظر الحجاب الإسلامي كليا، حتى في الشوارع، وموقفها السلبي من الاتحاد الأوروبي وعلاقتها الجيدة بروسيا.
وقد وصف ماكرون دعوتها لحظر الحجاب في الأماكن العامة بأنها تنتهك الدستور الفرنسي وتتجاوز على الحريات الدينية، ومن المحتمل أن تشعل حربا أهلية في فرنسا.
كما أضرت علاقة لابَن بروسيا بها انتخابيا، إذا استخدمها ماكرون ضدها في الحملة الانتخابية واتهمها بالاعتماد ماليا على فلاديمير بوتن، وذكَّرها بالقرض الذي حصلت عليه من روسيا لحزبها في عام 2014، زاعما أن “علاقاتها بروسيا تجعلها خيارا خطيرا في زمن تدور فيه رحى الحرب في أوكرانيا”، بينما اتهمت لابَن ماكرون بأنه لا يمتلك سلاحا غير إثارة الخوف في نفوس الفرنسيين.
نسبة اليمين المتشدد إلى عموم السكان ليست كبيرة في الدول الغربية، على الرغم من اختلاف حجمها من بلد لآخر، لكنها عموما متدنية ولا تشكل الغالبية في معظم بلدان أوروبا وأمريكا. لكن سبب فوز اليمين في بعض البلدان هو أولا انقسام اليسار، إلى متشدد ومعتدل، وثانيا عزوف نسبة كبيرة من الطبقات الفقيرة عن التصويت في الانتخابات، بينما يصر المحافظون على التصويت لأحزابهم.
وعلى الرغم من تزايد عدد المقترعين لليمين المتشدد في فرنسا في الانتخابات الأخيرة، فإن الجبهة المعادية لليمين مازالت عريضة وقوية رغم انقسامها. ولو جمعنا نسبة المصوتين للوسط واليسار واليمين المعتدل لوجدناها تشكل دائما غالبية كبيرة وأحيانا كاسحة.
الملاحظ حاليا أن اليمين المتشدد يتراجع انتخابيا في أوروبا وأمريكا. في الولايات المتحدة تمكن الحزب الديمقراطي من إقصاء اليمين المتشدد بزعامة دونالد ترامب، على الرغم من ضعف خطاب الرئيس جو بايدن وتقدمه في السن، لكن الصفة الأخيرة كانت حاسمة في إلحاق الهزيمة باليمين، الذي يهيمن عليه المسنّون، ويقوده السبعيني دونالد ترامب.
من المستبعد أن يرشح الرئيس بايدن لدورة ثانية، بسبب تقدمه في السن، فهو يقترب من الثمانين، لكن الديمقراطيين سيتمكنون على الأرجح من الاحتفاظ بالرئاسة لدورة ثانية في انتخابات عام 2024 إن اختاروا مرشحا قديرا ذا كاريزما، يمكنه أن يحظى بتأييد غالبية الأمريكيين، خصوصا مع انقسام الجمهوريين واستمرار هيمنة ترامب على زعامتهم.
وفي ألمانيا تمكنت أحزاب اليسار المعتدل الثلاثة، وهي الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب الأحرار وحزب الخضر، أو ما يسمى في ألمانيا (ائتلاف أضواء المرور)، الذي يتزعمه أولاف شولتز، من التفوق على اليمين في الانتخابات الأخيرة، وتشكيل الحكومة في أواخر العام الماضي، منهيةً بذلك 16 عاما من هيمنة اليمين المعتدل بزعامة أنجيلا ميركل.
وفي النمسا، تمكن الحزب الديمقراطي الاجتماعي من الظفر بـ50% من أصوات الناخبين في الانتخابات المحلية عام 2020، ومن المؤمل أن يعود إلى الصدارة في المستقبل بعد انتكاسته في انتخابات عام 2019، ويتمكن من الفوز في الانتخابات العامة المقبلة ويشكل حكومة بديلة للحكومة الائتلافية الحالية بين حزب الخضر وحزب الشعب المحافظ.
وفي بريطانيا، تواجه حكومة المحافظين اليمينية مصاعب جمة بسبب المصاعب الاقتصادية التي تمر بها حاليا، خصوصا ارتفاع أسعار الطاقة، وانعدام الثقة الشعبية برئيس الوزراء الحالي، بوريس جونسن. من المرجح أن يضطر جونسن للاستقالة قبل الانتخابات المقبلة، خصوصا بعد أن أحاله البرلمان إلى لجنة التحقيق البرلمانية، دون أن يعترض حزب المحافظين الذي يتزعمه، بخصوص مخالفته قانون الإغلاق الصحي ومشاركته في حفلات أعياد الميلاد في مقر الحكومة.
زعيم حزب العمال المعارض، السير كيير ستارمر، القانوني المتمرس الذي أدار القضاء البريطاني بجدارة وحصل على وسام الفروسية من الملكة عام 2014 لتميزه في عمله، يتقدم في العديد من استطلاعات الرأي ومن المحتمل أن يفوز في الانتخابات المقبلة، ليعود اليسار إلى السلطة بعد أن خرج منها عام 2010 في ظل زعامة غوردن براون.
في إيطاليا، فشل اليمين في تشكيل الحكومة فتشكلت حكومة ائتلافية مكونة من خمسة أحزاب، يقودها الخبير المالي التكنوقراط، ماريو دراغي، الذي كان مديرا للبنك المركزي الأوروبي حتى اختياره رئيسا للوزراء في منتصف فبراير/شباط 2021.
أما اليونان فلا يوجد فيها يمين متشدد، فالمحافظون الذين يحكمون حاليا، متحالفون مع اللبراليين الفرنسيين بزعامة الرئيس ماكرون. وقد كان رئيس الوزراء اليوناني (المحافظ)، كرياكوس ميتسوتاكيس، من أوائل المهنئين بفوز ماكرون قائلا في تغريدة له بالفرنسية “إن فوزكم انتصار لفرنسا ولأوروبا والديمقراطية”. ومن الجدير بالذكر أن الشعب اليوناني عموما مناصر للقضايا العربية، ولهذا السبب يلجأ السياسيون اليونانيون من جميع الأحزاب، لإعلان مواقفهم المؤيدة للقضايا العربية في موسم الانتخابات كي يكسبوا تأييد الناخبين.
وفي أسبانيا، فاز اليسار، متمثلا بحزب العمال الاشتراكي، بزعامة بدرو سانشيز، في الانتخابات منتصف عام 2018 ومازال في الحكومة. ومن المتوقع أن يفوز في الانتخابات المقبلة، المقررة بنهاية العام المقبل، خصوصا مع التنبؤ بارتفاع معدل النمو اقتصادي في البلاد لعام 2022 إلى 7%، حتى في ظل أزمتي كورونا وأوكرانيا.
وفي البرتغال فاز الحزب الاشتراكي فوزا ساحقا في الانتخابات التي أجريت في الثلاثين من يناير 2022، وشكل زعيمه، أنتونيو كوستا، الحكومة. ومن الجدير بالذكر أن كلا الحزبين الرئيسيين في البرتغال، الحزب الديمقراطي الاجتماعي والحزب الاشتراكي، يقفان موقفا سلبيا من اليمين، إذ ينتمي الأول إلى الوسط السياسي، بينما ينتمي الثاني إلى اليسار. والشعب البرتغالي، كالشعب اليوناني، يقف موقفا إيجابيا من القضايا العربية، بل يفتخر برتغاليون كثيرون بأنهم من أصول عربية.
اليمين يتراجع حاليا لصالح اللبرالية واليسار في العديد من الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة، بعد صعوده خلال العقد المنصرم، بشقيه المتشدد والمعتدل. كما يواجه اليمين صعوبات جمة حاليا في دول أخرى مثل روسيا خصوصا بعد تدخلها الأخير في أوكرانيا. ولو كانت هناك ديمقراطية حقيقية في روسيا لما بقي اليمين القومي مهيمنا على السلطة خلال السنوات العشرين الماضية.
لكن هذه التذبذب بين اليمين واليسار يتكرر دائما في الدول الديمقراطية، فكلما جاءت حكومة يمينية متشددة إلى السلطة، تحفزت قوى اليسار على التوحد والتصدي لها، وعندما تجيء حكومة يسارية متشددة، فإنها تثير اليمين ضدها، وهذه الدورة السياسية تحصل في معظم الدول الديمقراطية، كليا أو جزئيا. الاستقرار يتحقق دائما في الاعتدال السياسي، لكن الكثير من السياسيين الانتهازيين، يجدون في التطرف وسيلة مناسبة للقفز إلى السلطة بسرعة، فيستغلون الأزمات وعواطف البسطاء لتحقيق مآربهم.
ولكن، مع التطور العلمي والتقني والاقتصادي، وانتشار المعرفة، وتنامي الثروة في العالم، فإن القيم اليمينية آخذة في التراجع، حتى وإن تقدم اليمين السياسي في الانتخابات، أو فاز، في هذا البلد أو ذاك، فإن مثل الفوز أو التقدم مؤقت. وكما رأينا في الانتخابات الفرنسية، فإن اليمين المتشدد اضطر إلى تخفيف خطابه كي يحظى بعدد أكبر من الأصوات، لكنه مع كل هذا التنازل الذي قدمه، لم يحقق الفوز المنشود، لأن ثقة الشعوب به مزعزعة، حتى وإن منحته شرائح منها الثقة أحيانا، كاحتجاج على الهجرة والبطالة وتدهور الخدمات.
الكثير من الأحزاب اليمينية اقتربت من اليسار، مثل الحزب الديمقراطي المسيحي الألماني في ظل زعامة ميركل، وحزب المحافظين البريطاني في ظل زعامة ميجور وكاميرون ومَي. أما أحزاب اليمين في الدول الإسكندنافية فهي تشترك مع اليسار في مزايا كثيرة، خصوصا الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي.
يبقى اليمين في فرنسا، التي انطلقت منها فكرة اليمين واليسار أول مرة أثناء الثورة الفرنسية عام 1789، متفردا بين دول أوربا في تطرفه، لكنه، وبسبب هذا التطرف، لن يتمكن من الوصول إلى الحكم مهما خفف من حدة خطابه، ومهما كانت حدة الانقسام بين قوى اليسار، لأن قِيَّم الجمهورية الفرنسية اللبرالية راسخة في وجدان الشعب، ولا شك أنها ستبقى سائدة.