هواجس المنعطف الأخير في الانتخابات التركية
أطلق حزب العدالة والتنمية التركي في الأيام الأخيرة أكثر من خطوة استراتيجية بطابع إنمائي اقتصادي عسكري..
هناك تدشين أول حاملة مسيرات في العالم. ثم الإعلان عن انطلاق مسيرة إنتاج السيارة التركية “توغ” بعد تسليم الدفعات الأولى منها. وبعد ذلك تدشين مشروع نقل الغاز المستخرج من البحر الأسود والشروع في استخدامه محليا ليضع تركيا على لائحة الدول المنتجة لهذه المادة.
وهناك أخيرا استعدادات تفعيل المرحلة الأولى من محطة “أك كويو” لتوليد الطاقة النووية التي تشيد بالتنسيق مع شركة “روزاتوم” الروسية في مدينة مرسين الجنوبية .
سيكون حتما لمثل هذه الخطوات ارتداداتها الإيجابية لصالح رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية في قرار الناخب التركي، وهو في الطريق إلى الصناديق بعد 3 أسابيع. لكن مؤشرات وعوامل كثيرة ما زالت تذهب باتجاه مغاير يقلق الرئيس التركي وحزبه.
هناك استطلاعات رأي تتحدث عن تقدم تكتل المعارضة السداسي المدعوم من قبل حزب الشعوب الديمقرطية. وهناك كمال كيليشدار أوغلو زعيم المعارضة الذي ما زال يصول ويجول في الساحات والميادين ويلعب آخر ما يملكه من أوراق محاولا تكرار ما جرى في انتخابات البلديات قبل 4 أعوام.
ثم مشكلة تمسك حزب الحركة القومية اليميني بدخول الانتخابات مستقلا رافضا عروض التنسيق الانتخابي كما فعلت أحزاب المعارضة مما سيفقد التكتل الحاكم فرصة كسب العديد من المقاعد البرلمانية .
منحت فاجعة “حزب الخير” المعارض الذي تقوده ميرال أكشينار في الشهر المنصرم، بعد مغادرتها الطاولة السداسية والعودة إليها، فرصة مهمة لأردوغان وحزبه.
ارتدادات هذه الخطوة كانت مكلفة على الحزب وعلى تكتل المعارضة على السواء. فاستطلاعات رأي ترى أن أكشينار فقدت ثلث أصواتها بسبب ما جرى. هي فرصة ثمينة لا تعوض قدمتها لحزب العدالة الذي بدأ يكرر صوابية ما يقول حول أن تكتل المعارضة جناح لا يوثق به وسينهار عند أول نسمة سياسية تهب.
ومع ذلك فما يبقي حالة القلق في صفوف قيادات العدالة هو حديث شخصيات بارزة من داخل الحزب نفسه مثل حسين شليك عن استحالة حسم نتيجة الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى، وأن الرابح في الانتخابات البرلمانية هو الذي قد يفوز بالرئاسة أيضا.
طرح يصعب مسألة إعلان الفوز المبكر بالنسبة للحزب الحاكم كما حدث في انتخابات عامي 2014 و2018، ويعكس أسباب لجوئه للتفاهم الانتخابي مع أحزاب صغيرة تسهم في سد النقص وتعزيز فرص الفوز .
المزعج بالنسبة لحزب العدالة أيضا هو استراتيجية التحرك التي تعتمدها أحزاب المعارضة هذه المرة والتي لا تقارن بالطرق والأساليب المعتمدة في السابق. هناك اللغة الجديدة التي يتم مخاطبة الناخب بها. وهناك منطق توسيع “السفرة” لضم أحزاب وشخصيات سياسية جديدة إلى الجناح المعارض الذي يقرب بين أقصى اليمين وأقصى اليسار.
هذا إلى جانب مجاهرة حزب الشعوب الديمقراطية المنتشر تحديدا في مدن جنوب شرق تركيا حيث كثافة الصوت الكردي، بقرار عدم خوض معركة الانتخابات الرئاسية ودعم كمال كيليشدار أوغلو مرشح المعارضة .
كانت خصوصية حزب العدالة عند التأسيس قبل عقدين ضم التيارات السياسية والفكرية والعقائدية التركية الأربعة تحت جناحيه، كما فعل الرئيس السابق تورغوت أوزال في الثمانينيات مع حزب “الوطن الأم” الذي تفرد في السلطة لسنوات طويلة. المشكلة اليوم هي أن حزب “الشعب الجمهوري” اليساري العلماني هو الذي يرفع هذا الشعار اليوم مقلدا أوزال وأردوغان، ويستضيف حوالي 80 مرشحا من مختلف الأحزاب والألوان السياسية اليمينية والقومية.
يكفي إلقاء نظرة خاطفة على تفاعلات حادثة سجادة الصلاة التي وقف فوقها سهوا كمال كيليشدار أوغلو، بعدما تركها صاحبها على الأرض والتي تصدرت المشهد لأسبوع كامل في تركيا، لنتعرف أكثر على سخونة المنافسة ودرجة التوتر وما يمكن أن يتم تحريكه من أجل كسب آلاف الأصوات وتسجيل بعض النقاط .
بين ما يربك الناخب التركي أيضا هو وعود رسم معالم السياسة الخارجية التركية الجديدة وخارطة الأولويات فيها صباح اليوم التالي لإعلان النتائج. يتطلع حزب العدالة في السنوات المقبلة صوب إنجاز عمليات المصالحة والتطبيع مع دول الجوار وتشييد حزام أمن حول الجغرافيا التركية في منطقة الشرق الأوسط و بناء منظومة تحالفات إقليمية جديدة في آسيا والبلقان تلعب الجمهوريات التركية مركز الثقل فيها.
إلى جانب تفاهمات بطابع استراتيجي جديد مع روسيا في منطقة البحر الأسود، وتمسك أردوغان بإنشاء مشروع قناة إسطنبول الاستراتيجي الذي ترفضه المعارضة ويقلق موسكو. طاولة المعارضة السداسية تقول بالمقابل إن أولوياتها مع الخارج تقوم على العودة لسياسة موازنة العلاقة بين الشرق والغرب وإعادة الأمور إلى سابق عهدها مع الولايات المتحدة الأمريكية الحليف والشريك الاستراتيجي الأول لتركيا، إلى جانب إعادة إحياء هدف العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي المجمد منذ سنوات طويلة.
وكذلك إزاحة أسباب التوتر الأمني والسياسي الذي لحق بعلاقات تركيا مع دول الإقليم. المواجهة إذا ستكون بين خارطة أولويات متباعدة في الملفات الخارجية على الناخب التركي أن يحسم موقفه حيالها .
تتحدث قيادات المعارضة عن انسداد حاصل في ملفات الاقتصاد والسياسة ومسائل حقوق الإنسان والحريات. وأن وصولها إلى الحكم ضرورة لا بد منها لإطلاق حملة إصلاحات وتغيير جذرية.
ما يزعج أردوغان وحزبه هو ليس هذا الاحتمال فقط، بل إن تنهار كل المنظومة السياسية والدستورية والاقتصادية التي بناها خلال عقدين وإعادة البلاد إلى خط البداية في العام 2002 مع النظام البرلماني والسياسات الخارجية التركية الكلاسيكية، بعد تسجيل اختراقات استراتيجية لصالح الدور والنفوذ التركي في ملفات الحرب في أوكرانيا والصعود التركي العسكري في التصنيع الحربي والمشاريع الإنمائية العملاقة .
تمنح تجارب حزب العدالة وخبراته في التعامل مع ملفات داخلية وخارجية كثيرة على مدى عقدين كاملين في الحكم، فرصة إضافية بأعين الناخب، الذي يقلقه السير نحو المجهول مع تحالف الطاولة السداسية وشريكه من خارج الطاولة حزب الشعوب الديمقراطية. لكن المشكلة تبقى حول كيف سيتمكن الحزب من استرداد ما فقده من أصوات ومحاولة كسب بعض النقاط الحاسمة التي يحتاجها في الفترة الزمنية القصيرة المتبقية؟
سيناريو أن يحاول الناخب التركي إرضاء الطرفين معا بين الاحتمالات أيضا . تفوز المعارضة بالأكثرية البرلمانية، مقابل فوز أردوغان في معركة الرئاسة. نتيجة من هذا النوع بين الاحتمالات طبعا . لكنها لن تعجب الحكم ولن ترضي المعارضة، وستكون بين المفاجات التي قد تعيد الجانبين إلى خط البداية صباح الخامس عشر من مايو/أيار.