“أتاتورك” في مواجهة الدياسبورا الأرمينية
يرجع تاريخ العلاقة بين الفن والسياسة إلى قرون طويلة سابقة. ما يحدد شكلها ومسارها هو استعداد كل طرف لتقبل الآخر والانفتاح عليه.
تقديم التنازلات أو التصلب في المواقف مرتبط بمدى جهوزية السلطة السياسية لفتح الطريق أمام انطلاقة الأعمال الفنية بحرية واستقلالية. لكنه مرتبط أيضا بمدى جهوزية الممسكين بالقطاعات الفنية أو المؤثرين فيها لتقديم أعمالهم بموضوعية وحيادية.
آخر ساحة اختبار لهذه العلاقة بين الفن والسياسة شهدناها مع ردة الفعل السياسية والإعلامية والشعبية الواسعة في الداخل التركي، في أعقاب قرار منصة “ديزني بلاس” المنتجة للأفلام السينمائية، التراجع عن عرض مسلسل “أتاتورك”، الذي يتناول حياة مؤسس الجمهورية التركية، والذي أنهت الشركة إنتاجه كمسلسل من 6 حلقات، لكنها أعلنت أنها ولأسباب “تتعلق بتغيير استراتيجية المحتوى” تخلت عن عرض العمل رغم أنها أنفقت حوالي 8 ملايين دولار على إنجازه.
كانت المسألة ستسير بشكل طبيعي ودون كل هذا الضجيج، لو أن الشركة أعلنت أنها ستحول إنتاجها الضخم هذا حول حياة أتاتورك من مسلسل إلى فيلم سينمائي. لكن دخول اللوبي الأرمني الناشط في الولايات المتحدة الأمريكية على الخط وإعلانه أن تراجع الشركة عن قرار عرض المسلسل هو نتيجة تدخله المباشر وانتصاره السياسي بعد عرقلة عرض هذا العمل الفني، أغضب الأتراك وفجّر نقاشات طويلة في الداخل التركي قلبت الأمور رأسا على عقب.
بين الأسئلة التي ما زالت تنتظر الإجابات حتى اليوم هناك مسألة لماذا تغامر “ديزني بلاس” بتعريض مصالحها التجارية في تركيا للخطر على هذا النحو؟ وما الذي ستجنيه بعد إنفاق 8 ملايين دولار وهي تقول إنها تواجه أزمات مالية عليها البحث عن وسائل سريعة لسد هذا العجز؟
وهل أرباحها السياسية أو الرضوخ للوبيات لوقف هذا العمل الفني ستعوض لها خسائرها بعد إشعال الداخل التركي السياسي والإعلامي والشعبي ضدها؟ ولماذا تريد ديزني اختبار العلاقة بين السياسة والفن على هذا النحو وهي تردد دائما أنها شركة تجارية هدفها الربح قبل كل شيء؟
وحدت “ديزني بلاس” الأتراك المنقسمين منذ أشهر بسبب أزماتهم السياسية والمعيشية الداخلية في مواجهتها ودفعتهم نحو خنادق مشتركة دفاعا عن الشخصية السياسية الرمز في بناء تركيا الحديثة.
تراجعت عن قرارها بعد ساعات، لكن حالة الغضب في الداخل التركي لم تنته. فتبريرات “ديزني بلاس” لم تقنع الأتراك أو تطمئنهم. ردود الفعل التركية التقت عند قناعة أن القرار هو سياسي بامتياز. خصوصا وأن قيادات أرمنية تحدثت عن نجاحها في عرقلة عرض المسلسل وأن موقف الدياسبورا هو الذي أدى لاتخاذ مثل هذا القرار .
اعتراض الأتراك كان أيضا سببه كما قيل هو ازدواجية المعايير في التعامل السياسي – الفني معهم. عندما يتم إنتاج وتسويق أفلام ومسلسلات غربية بطابع سياسي يسيء إلى الداخل التركي ويعترضون هم لا يؤخذ بما يقولون ويريدون.
لكن عندما يكون هناك إنتاج سينمائي أو تلفزيوني يتبنى وجهة النظر التركية يقابله على الفور اعتراضات من كل صوب ويتم إلغاء هذا العمل الفني.
بين ما أغضب الأتراك كذلك هو أن اعتراضات اللوبيات الأرمينية جاءت قبل عرض المسلسل ومعرفة تفاصيل محتواه، مما يعني أن الهدف هو قطع الطريق مبكرا على الترويج لشخصية مثل أتاتورك مؤسس الدولة التركية العصرية بما يتعارض مع سياساتها ومصالحها في الغرب؟
التصعيد ضد “ديزني” بدأه المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم عمر شليك، الذي هدد المنصة بـ”منعها في تركيا”، بعد عام واحد من انطلاق خدماتها هناك، في حال لم تتراجع عن قرارها.”هذا القرار يعتبر إساءة للجمهورية التركية ورموزها ” كما قالت الهيئة العليا للرقابة على الراديو والتلفزيون التركي التي تحركت بدورها للإعلان عن فتح تحقيق إداري وفني، هذا إلى جانب حملات واسعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتغريدات يومية لعشرات الفنانين تنتقد ما جرى وتدعو للرد بنفس الأسلوب على الشركة المنتجة.
سارعت “ديزني بلاس” التي بررت قرارها هذا بأنه جزء من استراتيجية توزيع المحتوى لديها، للإعلان عبر ممثلها في تركيا أنها ستقوم بعملية بث نسخة خاصة كفيلم وثائقي يعاد ترتيبها واختصارها من العمل، ثم عرض أجزاء أخرى على شكل فيلمين منفصلين في دور العرض السينمائية في 29 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل عيد تأسيس الجمهورية التركية. لكن الأمور لم تهدأ والمياه لم تعد بعد إلى مجاريها.
نجاح دبلوماسية أتاتورك قبل قرن في مواجهة مخططات تفتيت الأراضي التركية وبناء الدولة الحديثة رأى فيه الكثير من أرمن العالم انتصارا تركيا في مواجهة مشروع التأسيس لكيان أرمني في شرق تركيا وعرقلة بناء أرمينيا الكبرى.
الرد الأرميني جاء باستمرار عبر لعب ورقة اللوبيات الناشطة في أمريكا ومحاولة التأثير على صناع القرار هناك لاستهداف المصالح التركية. لكن محاولة رمي الكرة في ملعب مؤسس تركيا الحديثة غير مقنعة للأتراك وللغرب، لأن الجميع يعرف أن الحرب الحقيقية التي خاضها أتاتورك كانت باتجاه تحرير الأراضي والتحضير لمعركة الاستقلال في مواجهة القوات الأوروبية القادمة من 3 جهات بعيدا عن شرق الأناضول بعدما نجح في صناعة التفاهمات مع روسيا القيصرية على تلك الجبهة.
قوة اللوبي الأرمني في الغرب وقدرته في التأثير على القرارات السياسية لمراكز السلطة معروفة أيضا بسبب تداخل المصالح والحسابات. رأينا ذلك قبل أعوام مع خطوات الرئاسة الأمريكية والكونغرس في طريقة توصيف ما جرى عام 1915 في شرق الأناضول.
لكن قناعة الكثيرين في الداخل التركي هي أن التقارب التركي الأرمني الذي ظهر إلى العلن في العامين الأخيرين تحديدا بعد الخروج من حرب “قره باغ”، ورسائل الانفتاح السياسي التي تتفاعل بشكل إيجابي بين أنقرة ويريفان، هي التي تقلق الدياسبورا الأرمنية في العالم وتغضبها وتدفعها للتصرف على هذا النحو لأن ما يجري يتعارض مع حساباتها ومصالحها.
تنقسم الآراء والمواقف في العادة حيال أعمال فنية وسينمائية بطابع سياسي بين غاضب ومنتقد، وداعم مرحب. هذا ما حدث أكثر من مرة بسبب أفلام سينمائية تسيء إلى صورة الداخل التركي مثل “ميدنايت إكسبرس” و”وعد ” قبل سنوات وسط ترحيب غربي أرميني.
ما يحدث هذه المرة لا يختلف كثيرا عن السابق. هو انقسام بين الأرمن والأتراك بين داعم ورافض لعرض عمل فني كبير يتناول حياة مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك ، والكرة رميت في ملعب إحدى أهم منصات الإنتاج العالمي.
ما يقرب الفن والسياسة من أسباب هي نفسها التي تباعد بينهما عند اللزوم. علاقة جدلية طويلة والمسألة نسبية ومرتبطة بأكثر من عامل يديرها ويتحكم فيها. السياسة قوة دفع وتشجيع للفن أحيانا. لكنها عقبة وسبب تقييد أحيانا أخرى. معادلة قديمة لن تتغير أو تتبدل بمثل هذه البساطة.