أزمات تركيا تتفاقم والأسوأ لم يأت بعد
ياوز بيدار
قد تتذكر مشهدا من الأفلام الغربية للمخرج الأميركي جون فورد. فجأة يسيطر المواطنون الأصليون على قافلة من المدنيين الأميركيين الأثرياء والطبقة الوسطى في طريقهم غربا تحت حماية الجنود. وفي حالة من اليأس تشكل العربات دائرة ضيقة بينما يبدأ السكان الأصليون في الدوران حولها وهم يلوّحون بالحرب. يحدث ذلك إلى حين يتم تخريب القافلة أو تدميرها بالكامل.
وفي حين شهدت تركيا عيد الأضحى في خضم أزمة اقتصادية حادة، فإن وضع أولئك الذين يحكمون تركيا يشبه إلى حد بعيد هذا المشهد.
المشكلات التي أنكرتها الحكومة أو أرجأتها أو قاومت حلها، وحاولت قمع الكثير منها بموجب إجراءات الشرطة المشددة على مدى السنوات الست أو السبع الماضية، تدور الآن حول الإدارة في أنقرة وأتباعها الأوفياء وحلفائها في وسائل الإعلام.
كان من الواضح من كل زاوية، أن العقلية الإدارية البالية التي تركز على الأمن ستقود تركيا إلى هذا الوضع الخطير. يشير مشهد الخراب القادم إلى انهيار لا مفر منه. إذ تعاني تركيا من أعمق وأخطر أزمة للنظام في تاريخها الحديث.
تتمثل المكونات في العقلية المتجانسة والخوف من مواجهة الماضي وانعدام وجود ثقافة الحل الوسط.
وبالطبع فإن الطموح البدائي لمركزية السلطة في أيدي تنظر إلى تدمير الطبيعة على أنه “تقدم” و”تنمية”، يسعى إلى “النظام العام والسلام” من خلال مقاضاة جميع المعارضين وسجنهم ويعتقد أن طرد أولئك الذين يرفضون التبعية للأقوياء عمل جيد ويرى الآخرين كلّهم معادين ويضفي الشرعية على اضطهادهم.
هذه مرحلة سيكون فيها مصير البلاد الاتجاه إلى الضحالة وتكاثر المشكلات بدلاً من حلها. إنها أزمة منهجية. لكنها ليست أزمة يتحمل الرئيس رجب طيب أردوغان المسؤولية عنها بمفرده.
وفي الواقع، فإن أردوغان هو الذي عارض منذ عام 2011 الإصلاحات والحوار المجتمعي في الوقت الذي يسعى فيه إلى الاستبداد المناهض للتعددية. هو الذي ربط أجهزة الدولة والقضاء والإعلام والمؤسسات الأخرى بمركز تنفيذي واحد، يقوده بنفسه. وهو النقطة المحورية للفاشية التركية وقوتها الدافعة والمهندس المعماري الرئيس.
وعلى الرغم من ذلك، فإن جزءا كبيرا من مسؤولية هذا “الانقلاب المدني” التدريجي والمستمر في حركة بطيئة، الذي جعل تركيا دولة تراكم الأخطاء على بعضها البعض في أعين المنتقدين في الداخل والخارج، يكمن أيضاً في كل مجموعة هوية في المجتمع وفي المعارضة الرئيسة وكذلك حزب العدالة والتنمية الحاكم.
يجب أن نكون واقعيين. إن إدراك الحقائق المؤلمة لا يعني أن تكون من دعاة الموت. فهو يسمح برؤية المشاكل المتزايدة بوضوح وإيجاد حلول واقعية. يجب أن نكون صادقين بشدة عندما نبحث عن الحقيقة.
ثمة أزمة اقتصادية هائلة في الطريق. أظهرت أنقرة من خلال سلسلة من القرارات، بما في ذلك استبعاد الموظفين ذوي الصلات الدولية من البنك المركزي وتغيير الإدارة في مجلس التحقيق في الجرائم المالية في تركيا، أنها ستواجه العاصفة القادمة بعقلية مركزية وسلطوية من خلال توظيف القومية وبسحب نفسها من المجتمع الدولي.
فتح أغلى الأنظمة البيئية في تركيا أمام تحقيق ربح بالجملة وهدم جميع الحواجز التي تحول دون الجشع، تمثل مؤشرات على تشديد التدفق النقدي في البلاد ونقص مصادر التمويل. لقد أصبحت دولة من المستحيل حكمها، يكون فيها الفعل القوي كقانون لأنفسهم، وهذا لن يؤدي إلا إلى زيادة التوترات.
هل تُظهر هذه المؤشرات علامات على الاندفاع المذعور؟ على الأرجح. لقد رأى الإسلاميون في حزب العدالة والتنمية وحلفاؤهم من حزب الحركة القومية اليميني المتطرف فرصتهم في تنفيذ التوليفة التركية الإسلامية التي يتوقون إليها في الحكومة، وملأوا أجهزة الدولة بالعناصر السلطوية المعادية للغرب.
من خلال رؤية حتمية الأزمة المقبلة، فهموا الحاجة إلى العمل سوياً بشكل أكثر إلحاحا في مواجهة موجة المعارضة الشديدة التي لا بد أن تثيرها الأزمة. هذا، حتى لو علمنا أن مفاوضات “المنطقة الآمنة” في سوريا (التي لا صلة لها بالموضوع) مع واشنطن يمكن أن تعرض وجودها السياسي للخطر على المدى الطويل، بقدر ما تم وصف تلك المفاوضات بأنها انتصار لأنقرة.
يقود أردوغان هذا التشدد للسلطة، بسبب مزاجه الدفاعي والتشوه البصري في عقليته. يتم اتخاذ كل خطوة من خطوات الرئيس إما مع العلم وإما على أمل أن تزيد احتمالات بقائه هو نفسه.
يعرف أردوغان أن تحالفه مع القوميين لم يقم على أساس مستقر منذ تأسيسه في عام 2014، لكن حزب الحركة القومية وزعيمه دولت بهجلي يعرفان جيداً أن فرصة ذهبية لن تكون سانحة في إدارة مستقبلية. على عكس بعض التحليلات فإن اعتقادي هو أنه من الأكثر أمانا افتراض أن قادة حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية يرتبطان سوياً حتى النهاية.
إن العداء الذي أبداه بهجلي ووسائل الإعلام الموالية للحكومة تجاه الخطوات المحدودة الأخيرة للمحكمة الدستورية نحو حماية حرية المواطنين في انتقاد الدولة، لعلامة على أن الظروف القمعية التي أوجدتها حالة الطوارئ بعد محاولة الانقلاب في عام 2016 ستستمر. ترى قطاعات كبرى في المجتمع طرد اللاجئين السوريين في تركيا مسألة أكثر إلحاحا من تحرير الآلاف من السجناء السياسيين الأبرياء المحتجزين في السجون التركية.
من ناحية أخرى، فهم كثيرون من الذين كانوا يأملون في أن تؤدي انتصارات المعارضة في الانتخابات المحلية إلى موجة سريعة من التغيير أنهم كانوا على خطأ. لقد خسر النجاح الكبير الذي حققته انتخابات إسطنبول، لسوء الحظ، الكثير من قوته المحركة، ولا يزال يواصل ذلك. يشبه هذا إلى حد ما الطريقة التي تلاشت بها شعلة المقاومة الديمقراطية التي أشعلتها احتجاجات حديقة غيزي في عام 2013.
ربما كان هذا ما توقعه أردوغان. عندما فقدت القوة المحركة للانتخابات المحلية زخمها، كان قادراً على إعادة تنظيم صفوفه وتقييم الوضع، ورأى المعارضة تعود إلى حالتها الجبانة والمفككة، وقرر أن استمرار الحكم الصارم هو أفضل خيار له. وكان الاستثناء الوحيد لهذا هو قراره تغيير موقفه السابق بشأن اللاجئين السوريين، مع علمه بعداء حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي وقاعدة ناخبي الحزب الصالح القومي المعارض تجاه المجموعة. يدل افتقار الحزبين إلى رد الفعل على هذه الخطوة على أنها كانت خطوة سياسية ذكية.
لذا ما الذي يمكن توقعه من الفترة المقبلة في تركيا؟ يبدو واضحاً أن حزب الشعب الجمهوري سيتمسك بمعارضته غير الفعالة لسياسات حزب العدالة والتنمية، دون تقديم بدائل، مما سيسمح بتعمق الأزمة.
سيواصل حزب المعارضة الرئيسي توجيه انتقادات لحزب العدالة والتنمية بشأن الاقتصاد، إلى جانب جهوده غير الفعالة لجمع تقرير حول القضية الكردية في تركيا والتحرك بلا معنى لتنظيم مؤتمر عن سوريا، دون دعوة حزب الاتحاد الديمقراطي، الممثل السياسي الكردي الرئيسي في سوريا. بالطريقة نفسها يبني الحزب الصالح سياساته على فشل حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية في التعامل مع الأزمة. إذا كان هذان الحزبان المعارضان يتوقعان إجراء انتخابات مبكرة، فقد يجدان أن آمالهما لن تتحقق.
لن يدعو أردوغان إلى إجراء انتخابات مبكرة في وقت كان فيه نصيب حزبه في الانتخابات قد تعرض لضربة قوية. علاوة على ذلك، فإن رد فعله الشديد على خطط شخصيات سابقة في حزب العدالة والتنمية لتشكيل أحزاب سياسية جديدة يمكن أن تنافس حزب العدالة والتنمية يدل على أنه سيبذل قصارى جهده لمنع أي انتخابات مبكرة حتى يمكن تحييد التشكيلات السياسية الجديدة.
تكهن البعض بأن أنقرة يمكن أن تبدأ عملية جديدة لحل القضية الكردية. ومع ذلك، في مثل هذه الظروف الفوضوية، يبدو هذا غير مرجح أيضاً. في ظل التزام حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية بسياسة خارجية وداخلية تعارض بشدة التلميح إلى الإصلاح بشأن القضية الكردية- وهو الخط الذي كان أردوغان نفسه هو مهندسه- من غير الواقعي توقع نهج حضاري لتأمين نهاية سلمية للنزاع الكردي من هذه الحكومة.
وهكذا فإن الأزمة مصيرها أن تزداد عمقا. إذا استمرت مآزق أنقرة في سوريا والتنافس على موارد الطاقة في شرق البحر المتوسط، فإن معضلات السياسة الخارجية التي تخوض فيها، بما في ذلك الموقف الروسي المريب، ستزداد تفاقماً. ومع ذلك، فإن أردوغان سيكون لديه على الأرجح القوة لتفادي الاعتراضات على هذه القضايا، وكان آخرها من ضباط الجيش المتقاعدين.
وهذا ما يدفع المعارضة الحقيقية: الأزمة الاقتصادية. حيث سيشعر المجتمع بشكل أكثر حدة بالأزمة التي ستغذي زيادات الأسعار والضرائب غير المباشرة وتقلبات العملة المحتملة، كما هو الحال في اليونان المجاورة.
باختصار، لا يوجد مؤشر يُذكر على أن الأيام السوداء في تركيا سوف تنتهي في أي وقت قريب.