أزمة الديمقراطية الأميركية: الارتباك الداخلي والعالمي
د. خطار أبو دياب
أكدت مجريات الانتخابات الرئاسية الأميركية على الانقسام العمودي في البلاد الشاسعة، وكذلك على عدم تأقلم المؤسسات ونظام الحزبين والنظام الانتخابي مع واقع الولايات المتحدة في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. ومما لا شك فيه أن النظام العالمي المرتبك في الأساس وفي مرحلة إعادة التشكيل سيتأثر كثيراً بالارتباك الأميركي الذي سيتعمق بانتظار نتائج الاستحقاق الرئاسي واحتمال اندلاع مواجهات في ظل أجواء محمومة منذ مصرع جورج فلويد. من الآن إلى بدء سيد البيت الأبيض ولايته في 2021 سيبقى الانتظار الثقيل سيد الموقف أميركياً وعالمياً. وفي مطلق الأحوال سيصعب على جو بايدن التملص من انعكاسات الظاهرة الترامبية المتجذرة أميركياً أو إحداث تغييرات ملموسة في معادلات دولية مضطربة بسبب تصدع العولمة والحرب الباردة الجديدة الصينية – الأميركية.
ألقت جائحة “كورونا المستجد” بظلالها على المشهد الأميركي بأكمله وكانت الناخب الأكبر، ومن المفارقات نسجل نجاة دونالد ترامب صحياً وعدم نجاة دونالد ترامب سياسياً لأن التصويت المبكر وعبر البريد الذي شرّعته الكثير من الولايات أتى لصالح جو بايدن، ولأن إنجاز الرئيس الجمهوري على الصعيد الاقتصادي والذي كان مفتاح الفوز بولاية جديدة سرعان ما تضاءل بسبب إدارته المتعثرة لأزمة الفايروس، وتم تسليط الضوء على مسؤولية ترامب عن جعل الولايات المتحدة أقل حصانة في مواجهة الوباء. وتم ملياً استغلال الذعر الناشئ عن تفاعلات الجائحة لتحجيم الحصاد الاقتصادي الجيد في الولاية الأولى والذي كان من أبرز أحصنة المرشح الجمهوري.
وهذا العامل الجديد لم يقلل من صخب حملة انتخابية أعادت تكرار حملة 2016 بنسخة منقحة، إذ كان شعار “كل شيء إلا ترامب” المعبر لجعل شخصية الرئيس الأميركي المثيرة للجدل من أبرز مواضيع السجال الانتخابي. في الحقيقة، لم يتعرض شخص في هذا الموقع لقدح مماثل علماً أن الرأي العام الأميركي استساغ عادة اللجوء إلى السخرية من شخص الرئيس وإضعاف هيبة الرئاسة، لكن في حالة ترامب وصل الأمر إلى حده الأقصى وبدا سيد البيت الأبيض الحالي عدواً للنخب ولمؤسسة الدولة العميقة والكثير يريد خسارته.
بيد أن كل النقاش المحتدم وتسجيل النقاط بين الطرفين، إضافة إلى الشرخ العنصري بعد مصرع جورج فلويد وتعميق الانقسام في تتمة لتداعيات صعود الترامبية منذ 2016، لا يحجب التغيرات الديموغرافية والثقافية والمجتمعية على الصعيد الداخلي والبنية المتدهورة لنظام عالمي في مرحلة التخبط الاستراتيجي. ولهذه الأسباب لم تحتل السياسة الخارجية موقعا حاسما في خيارات الناخبين الأميركيين.
ساد الغموض حول اسم الفائز وجرى تمديد موعد إعلان النتائج في انتخابات كانت الأكثر دقة وصعوبة في التاريخ الأميركي المعاصر، نظرا للتنافس الحاد وطبيعة الانتخابات وطريقة إجرائها والوصول إلى حسمها. ومن أبرز الدروس المستخلصة تداعي نظام الحزبين التقليدي بين الجمهوريين والديمقراطيين أو اليمين واليسار إذ خسر طابعه التمثيلي نظرا للتنوع المتزايد في الحياة السياسية والتوتر على الأرض. لقد أمّن نظام الحزبين قدرا من الاستقرار السياسي لمدة طويلة لكنه لم يعد كافيا لأنه يغلق المشهد على خيارات سياسية أخرى في بلاد جيفرسون وهاميلتون.
زيادة على تعقيدات ناشئة عن ضرورات النظام الفيدرالي والفارق بين التصويت الشعبي المباشر ومجمع كبار الناخبين، اعتبر العديد من المراقبين أن الديمقراطية الأميركية في خطر لأن التشكيك المتبادل يمسّ حصانة المؤسسات، ولأن التعامل بين المعسكرين المتقابلين يبدو وكأنه بين أعداء وليس بين خصوم متنافسين تحت سقف دولة القانون. والأدهى بنظر مناهضي ترامب أن الرئيس ترامب نفسه انقلب على قواعد احترام اللعبة الديمقراطية وحكم التصويت الشعبي، وغالبا ما تم اتهام ترامب بأنه وراء التحريض والتعبئة والانقسام الحاد بين أميركيتين. لكن في المقابل، كان ترامب هو المستهدف غالباً وكانت كل القلاع الإعلامية في مواجهته مما اضطره لاستخدام تغريدات التويتر بمثابة وسيلته الإعلامية المعاكسة، واضطر أنصاره لاستخدام كثيف لشاشات التواصل الاجتماعي لتعويض حجبهم عن القنوات الكبرى.
ستترك هذه الانتخابات ندوباً عميقة في الجسم المؤسساتي الأميركي، وعلى الأرجح ستكون البلاد أمام مفترق طرق ما بين تعميق الانقسامات والشرخ العنصري من جهة أو إطلاق الحوار والمصالحة بين الأميركيتين في إطار إصلاح للمؤسسات انطلاقا من جعل مدة الولاية الرئاسية أطول ولمرة واحدة، وجعل النظام الانتخابي أكثر تمثيلاً مع إعادة النظر بنظام الحزبين إذ أخذ الحزب الديمقراطي يبدو وكأنه حزب تجمع الأقليات أو المكونات العرقية والقومية أكثر مما كان في تمثيله للطبقات الوسطى والفقيرة. والحزب الجمهوري تغير أيضا بعمق ولم يعد حزب الليبرالية والجمهورية بل أثرت عليه ظواهر المحافظين الجدد والصعود الديني وأنصار تفوق الإنسان الأبيض والظاهرة الترامبية.
وما يزيد القلق وجود إهمال لهذه المتغيرات الاجتماعية والديموغرافية والأيديولوجية في تطور الولايات المتحدة. ويدلل الفارق البسيط بين المتنافسين على الصعوبات المستقبلية إذ سيحكم جو بايدن بلاداً ترك عليها دونالد ترامب بصماته ولن تكون مهمته سهلة في مقاربة الكثير من الأمور في ظل استمرار سيطرة الجمهوريين على مجلس الشيوخ.
وهذا الارتباك الداخلي له وجهه العالمي أيضا ، لأن الرئيس الأميركي يعتبر بعيون الآخرين “رئيس العالم” أو “شرطي القرية الكونية”. ومن دون شك سيكون للعلاقة مع الصين أثرها على الداخل الأميركي وسيصعب على القيادة الصينية نسيان تسمية ترامب لفايروس كورونا بـ”الفايروس الصيني”، وكذلك طريقة مخاطبة الرئيس الأميركي الحالي للصين وافتتاحه حربا تجارية وتكنولوجية مع بكين. ولكن ذلك لا يعني أن بإمكان جو بايدن التنازل عن السقف الذي وضعه ترامب للتجاذب مع الصين. وفي مجمل الملفات سيكون للمؤسسات كلمتها خلافا لمرحلة ترامب التي همشتها. لكن انطلاقا من تجارب الإدارات الديمقراطية السابقة من بيل كلينتون إلى باراك أوباما، لا نتوقع حصول تغييرات جذرية لأن ثوابت السياسة الأميركية الخارجية تفرض نفسها وستكون العبرة في الأساليب مع تسليط المجهر على وزارتي الخارجية والدفاع بالإضافة إلى مستشارية الأمن القومي وإدارة المخابرات المركزية لفهم طبيعة اتخاذ القرار في المطبخ الرئاسي الحديد.
خلاصة القول إن انتصار جو بايدن في الرئاسيات الأميركية سيحمل في السياسة الخارجية تعديلات وليس قطيعة في العمق، ولن تكون هناك فوارق جوهرية بين “أميركا أولاً” الشعار الترامبي و”أميركا القوة الاستثنائية التي لا غنى عنها” حسب الديمقراطيين.
الأوبزرفر العربي