أسطورة “السياسي المستقل” في تونس
أمين بن مسعود
في الكثير من الأحيان تفرض إكراهات التعاطي الحزبي والإعلامي مع الواقع السياسي “أساطير مؤسسة” غير متناسقة مع الحقيقة والمنطق وطبائع الأمور. وسرعان ما تتحوّل بمقتضى سيرورة الزمن إلى واقع مسلّم به في صلب التجاذب بين الكتل النيابية والقوى البرلمانية في البلاد.
ثمّ ما تلبث تلك الأسطورة أن تؤول إلى التلاشي بقوّة الحقيقة، عندما تنكشف ضبابية الأشياء أمام الأعين.
من بين الأساطير السياسية التي تُسوّق لدى الرأي العامّ التونسي على الأقلّ، أسطورة “رئيس الحكومة المستقلّ” عن كافة الانحيازات السياسية والانجذابات الفكرية والحسابات الحزبيّة. وكأنّه رجل دولة من عالم ما بعد الحداثة حيث الخوارزميات الباردة والعقل الصارم والحاسم.
في حين أنّ كافة التجارب السياسية التي عاشتها تونس منذ بداية حكومات ما بعد الثورة، أثبتت بما لا يدع أي مجال للشكّ والريبة، أنّ كافة الذين قَدموا وقُدّموا باسم “التكنوقراط” ليسوا سوى شخصيات سياسية لها عناوين فكرية واختيارات سياسية واضحة، وقد انخرط أغلبهم ضمن العمل الحزبي بمجرد مُغادرة الوزارات والدواوين.
فمن ياسين إبراهيم إلى سعيد العايدي، ومن المهدي جمعة إلى رافع بن عاشور، كلهم وغيرهم كثير، استُقدموا تحت عناوين التكنوقراط، لكنهم سُرعان ما انخرطوا ضمن مسارات سياسية وحزبية عديدة ومتشعبة.
وحتّى السيد الحبيب الصيد، عندما جيء به على رأس حكومة التوافق الأولى بين النهضة والنداء باسم ورسم “الشخصية المستقلة”، فإنّ الحقيقة التي كان يتداولها جميع الفاعلين حينها، أنّ الصيد معروف الهوى والهويّة السياسية، وقد أثبت حقيقة هذا الأمر عندما حلّ مستشارا في قصر قرطاج في آخر مراحل حياة المرحوم الرئيس الباجي قايد السبسي.
اليوم، تُعاد تقريبا نفس الأسطوانة السياسية المشروخة، بأسماء جديدة، ولن يكون آخرها رئيس الحكومة المكلّف السيد الحبيب الجُملي.
صحيح أنّ الجُملي لم يكن يوما قياديا في حركة النهضة أو في التيار الإسلامي بشكل عامّ، أو في باقي الأحزاب السياسية التونسية. وصحيح أيضا أنّ الرجل اشتغل في حكومة الترويكا الأولى ككاتب دولة معنيّ بالشؤون الفلاحية ولم يعرف في البدء إلى أيّ جهة سياسية يُحسب.
لكنّ الصحيح أيضا أنّ الجُملي استُقدم لرئاسة الحكومة مباشرة من المطبخ الداخلي لحركة النهضة ومدعوم من مجلس شوراها ومكتبها التنفيذي، ومُزكّى بل هو مقدّم على أكثر من عشرة أسماء وقع تداولها قبل ظهور الدخان الأبيض من مقر النهضة.
قد يكون من السذاجة أن تُقدّم حركة النهضة شخصية لأعلى منصب في الدولة يحظى بأعلى صلاحيات القرار ومن شأنه أن يضعها في وضعية إحراج في حال استعصى عليها في البرلمان، كما استعصى من سبقه على رئاسة الجمهورية والحزب. ومن السذاجة أيضا ألا تكون هذه الشخصية مؤتمنة الجانب وبعيدة كل البعد عن المغامرة بشقّ عصا طاعة المرشد و”الراشد”.
بهذا المعنى، فالرجل ليس مستقلا بمفهوم القوى السياسية الداعمة له، وليس مستقلا أيضا عن المنظومات الحزبية التي اشتغل معها إبان حكم الترويكا. وقد يكون من غير المنطقي أن نُطالبه بأن يكون مستقلا في بيئة ونظام سياسيّ يفرضان على الحزب الحاكم تسمية رئيس الوزراء واقتراحه على رئاسة الجمهورية.
وكما أنّ السيد المهدي جمعة جاء بعناوين الاستقلالية واتضح في الأخير أنه رجل “سياسة” في نفس الوقت، وكما جيء بالحبيب الصيد بشعارات الحياد وأكدت الوقائع السياسية أنه رجل “النداء الضعيف”، يجري اليوم استقدام الحبيب الجملي تحت عناوين التكنوقراط في حين أنّه لم يدخل إلى الدولة إلا من باب النهضة وأخواتها.
هذا لا يمنع أن نقلب التساؤل إلى إشكاليته العميقة والصحيحة، هل سيكون الجُملي قويا وقادرا على مواجهة الأعاصير السياسية والبرلمانية ومراكز النفوذ وأن يفرض عناوين الكفاءة والنزاهة قبل عناوين الانتماءات السياسية سواء منها الحقيقية أو البعيدة أو الناعمة؟
هل سيتمكن الرجل من إيجاد طبخة حكومية تجمع بين “أطماع الأحزاب” و”طموحاتها”، وبين إكراهات الواقع الاقتصادي والاجتماعي وبين انتظارات الداخل وتخوفات الخارج؟
الاستقلالية الحقيقية هي استقلالية الأداء والنتائج وتوزير الكفاءات وعدم تقديم الحسابات السياسية على مصالح الدولة، كما حصل في وقت غير بعيد، والعمل على تقديم الملفات الاجتماعية والاقتصادية على غيرها من الملفات الأخرى، أما ما عدا ذلك فشعارات جوفاء عاجزة عن التحقق في بيئة سياسية تتجاذب كافة الكفاءات تقريبا.
رئيس الحكومة ليس مستقلا، ولن يكون الكثير من وزرائه أيضا، الذين سيأتون من أحزاب معينة وبحسابات الحقل والبيدر. وعوضا عن التركيز على أسئلة الهويات السياسية القريبة والبعيدة، من الواجب التساؤل عن البرامج الاجتماعية والاقتصادية وعن قضايا التهريب والإرهاب والفساد الراسخ في دواليب الدولة، وعن التضخم المالي وانهيار العملة. هذه هي القضايا الأساسية التي تفرض الانحياز والانخراط وعدم الحياد أو الاستقلالية.
يمكن القول إنّ اختيار الجملي باعتباره شخصية قريبة من النهضة، لكنها غير نهضاوية تنظيميا، فيه الكثير من الدهاء والذكاء من قبل النهضة من أجل تجنّب “سيناريو يوسف الشاهد” الذي جاء من داخل النداء وشق صفوفه.
كما أن النهضة تسعى من خلال اختيار الجُملي إلى استدراج “فرقاء التيار الثوري” الذين يطالبون بشخصية مستقلة في رئاسة الحكومة، دون نسيان سيرة الرجل اللينة والهادئة مقارنة بباقي الأسماء الأخرى.
وهُنا بالإمكان القول إنّ النهضة استثمرت في خزانها السياسيّ الناعم، حيث التأييد دون ولاء، والقُرب دون انتماء، والالتقاء دون انصهار. وقد تمكنت بعد انتزاعها رئاسة البرلمان من تقديم فرس رهان (مع حفظ الألقاب واحترام الأشخاص) يعيد الكرة السياسية إلى ملعب الفرقاء الذين ينادون بـ”شخصية مستقلة” لإبرام التحالفات الحكومية.