أوروبا حائرة بين تعزيز دفاعاتها العسكرية أو حماية الإنفاق الاجتماعي
كشف الهجوم الروسي على أوكرانيا والخلافات مع الولايات المتحدة، عن فجوات في القدرات العسكرية لبلدان أوروبا قد تستغرق سنوات لسدها، حتى لو جعلت الحكومات الإنفاق العسكري أولوية سياسية، وهو ما لم تفعله منذ عقود.
وباتت أوروبا في الوقت الحالي “مجبرة” على الاختيار بين تعزيز دفاعاتها أو حماية مستويات الإنفاق الاجتماعي، وذلك وسط الخطر الذي تُمثله روسيا والتراجع الأميركي المحتمل من حلف شمال الأطلسي “الناتو” ما يُشكّل تهديداً لأمن القارة العجوز، وفق صحيفة “وول ستريت جورنال”.
ومع تشكيك الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، في مستقبل الولايات المتحدة في الناتو، وحرب أوكرانيا، يُحذّر القادة الأوروبيون من تهديد وجودي لأمن القارة.
وسيتطلب تعزيز الأمن في أوروبا، زيادة الإنفاق العسكري، في وقت تقوم فيه العديد من الدول الأوروبية بتخفيض ميزانياتها للتعامل مع مستويات الديون المرتفعة والنمو الاقتصادي الضعيف.
إعادة كتابة العقد الاجتماعي
ولكن الوصول للإنفاق العسكري، الذي يقول بعض الساسة والخبراء، إنه ضروري من شأنه أن يجبر الأعضاء الأوروبيين في الناتو على البدء في تقليل الزيادات الكبيرة في مستويات الإنفاق الاجتماعي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة (1947-1991).
من جهته، قال وزير خارجية ليتوانيا جابريليوس لاندسبيرجيس، الذي حذَّر من أن روسيا ستهاجم دول الناتو، إذا لم تُهزم في أوكرانيا: “علينا إعادة كتابة العقد الاجتماعي من جديد”.
بدورها، قالت مديرة قسم شمال أوروبا في مركز المجلس الأطلسي للأبحاث، آنا فيزلاندر لـ”وول ستريت جورنال”: “الأمر يتعلق بالإرادة السياسية إلى جانب القدرة على التوضيح للجمهور ما الذي يتعين علينا فعله بشكل حقيقي”.
20 عاماً لبناء القدرات الأوروبية
وبالنظر إلى أن الجيوش عادة ما تحتاج إلى سنوات للتخطيط والتجهيز وتدريب قواتها، فإن الحكومات الأوروبية باتت تواجه الآن معضلة تتمثل في ضرورة إجراء بعض التنازلات الفورية والصعبة في الإنفاق.
ووفقاً لتحليل أجراه المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في عام 2019، فإن أوروبا ستحتاج إلى 20 عاماً على الأقل، لبناء قوات قادرة على صد أي هجوم روسي محتمل لليتوانيا أو الأجزاء القريبة من بولندا بدون الولايات المتحدة. وستبلغ كلفة الأمر 357 مليار دولار، أي ما يعادل أكثر من 420 مليار دولار بأسعار اليوم، إلا أنه من المتوقع أن ينفق حلفاء أوروبا في الناتو، 380 مليار دولار على الدفاع هذا العام.
الناتو استنزف مخزونه من الأسلحة
وعلى الرغم من أنه قد تم تدمير كميات هائلة من المعدات الروسية في أوكرانيا، فإن العديد من المسؤولين الأوروبيين يقولون، إن “موسكو يمكن أن تعيد بناء جيشها في غضون سنوات قليلة من انتهاء الحرب”، فيما استنزف الناتو مخزونه من الأسلحة للحفاظ على تسليح كييف.
وكانت أوروبا قد بدأت في السنوات الأخيرة في عكس التخفيضات في الميزانيات العسكرية التي تم إجراؤها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، إذ وافق أعضاء الناتو، على رفع إنفاقهم الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، بعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا في عام 2014.
لكن العديد من الخبراء يعتقدون أن نفقات الدفاع الأوروبية يجب أن تصل إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي، في حال بدأت الولايات المتحدة الانسحاب من الناتو.
وفي هذا الصدد، قال الجنرال المتقاعد بالجيش البلجيكي مارك ثيس، إن شراء بروكسل ما يكفي من الذخيرة فقط لصد أي غزو لبضعة أسابيع، سيكلف أكثر من 5 مليارات دولار.
وأضاف: “عندما انضممت إلى الجيش في السبعينيات، كان بإمكان بلجيكا نشر 50 ألف جندي في ألمانيا، ولكن بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا قبل عامين، وافقت البلاد على إرسال 300 جندي فقط إلى رومانيا. معظم حكومات أوروبا الغربية ستعاني من آلام متزايدة لتعلم كيفية شراء المعدات الجديدة والتجنيد وبناء البنية التحتية والتدريب في الوقت نفسه”.
ووفقاً لدراسة حديثة أجراها معهد “إيفو” الألماني للأبحاث الاقتصادية، فإنه من الممكن أن تصل أغلب الدول الأوروبية إلى مستوى 2% من الإنفاق العسكري من خلال تقليص النفقات الحكومية الأخرى بما يقل عن نقطة مئوية واحدة، ولكن الوصول إلى مستوى 3% سيتطلب تحويل عدة نقاط مئوية من الإنفاق الحكومي إلى ميزانية الدفاع.
ووفقاً لحسابات “إيفو”، فإنه على الرغم من أن الإنفاق العسكري لدول الناتو الأوروبية، عاد إلى مستويات عام 1991، استناداً إلى أسعار 2023، فإن الإنفاق الاجتماعي تضاعف خلال تلك الفترة، ليستهلك نصف الإنفاق الحكومي، ويشمل ذلك ارتفاع تكاليف معاشات التقاعد في القارة العجوز.
اعتماد أوروبي على أميركا
وقد أدت هذه الضغوط المالية، إلى جعل أوروبا تعتمد على الولايات المتحدة في الحصول على القدرات العسكرية الحيوية التي يقول الخبراء إن من بينها معدات الدفاع الجوي والتزود بالوقود في الجو والهندسة العسكرية والمدفعية والذخيرة، كما توفر واشنطن أيضاً المعدات المتطورة للاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، والتي تُعد ضرورية للرد السريع على التهديدات، فضلاً عن هيمنتها على رقمنة الجيوش التي تسمح للقوات بالتواصل بشكل آمن أثناء الصراعات.
وأوردت “وول ستريت جورنال”، أن بعض الدول الأوروبية بدأت في التحول بالفعل، إذ تنفق بولندا الآن 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، وتعمل على بناء قواتها، كما شرعت في حملة شراء ضخمة لأحدث الدبابات والمروحيات وقاذفات الصواريخ والمقاتلات النفاثة.
كما انضمت السويد وفنلندا، اللتان تنفقان مبالغ طائلة على الدفاع، إلى الناتو، ما عزز قبضة الحلف على منطقة البلطيق المتاخمة لروسيا، فضلاً عن قيام الحلف الأطلسي بتسريع عملية حشد القوات والمعدات على جناحه الشرقي بعد أن هاجمت موسكو أوكرانيا.
ولكن بالنظر إلى الانتخابات التي من المقرر إجراؤها في العديد من دول القارة، فإن معظم الحكومات تكافح لمعالجة مسألة التمويل العسكري هذه، فلم توضح الحكومة الائتلافية “الهشة” في ألمانيا، والتي ستجري انتخابات العام المقبل، كيف سترفع إنفاقها الدفاعي مجدداً إلى 2% أو أكثر، بمجرد نفاد صندوق الدفاع الخاص البالغ 109 مليارات دولار في عام 2027.
يشار إلى أنه منذ الحرب الباردة، ظهر عجز أوروبا مراراً في صراعات أصغر حجماً، إذ نفدت القنابل الدقيقة لدى بريطانيا وفرنسا أثناء القتال في ليبيا عام 2011، بحسب “وول ستريت جورنال”.