أوكرانيا بين فكي اليمين الأوروبي وترامب
أثارت نتائج الانتخابات الأوروبية قلقاً متزايداً بشأن مستقبل الدعم السياسي والعسكري المقدم لأوكرانيا لمواجهة العملية الروسية الخاصة بها. ويفسر هذا القلق، التقدم الكبير الذي حققته أحزاب اليمين خلال الانتخابات الأخيرة التي جرت بين 6 و9 يونيو/حزيران.
ففي فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا، حققت هذه التيارات الفوز في الانتخابات، فيما عزّز الهولنديون موقع حزب خِيرت فيلدرز الذي حل ثانيا بنسبة 16.97 بالمئة.
في هذا السياق، أبدت الصحافية تيتيانا أوغاركوفا رئيسة القسم الدولي بالمركز الإعلامي للأزمات في أوكرانيا قلقها، وقالت في تصريحات صحافية: “يشكل هذا الاتجاه القومي الذي يتقدم في البرلمان الأوروبي خطورة كبيرة على أوكرانيا”، مضيفة: “نحن نعرف مدى قرب العديد من هذه الأطراف مع الكرملين ومن الواضح أن هذا لا يجعل مهمتنا أسهل”.
بدورها، قالت النائبة المعارضة ليسيا فاسيلينكو، والتي دعمت فولوديمير زيلينسكي منذ بدء العملية الروسية، إن الانتخابات الأوروبية استقطبت كثيرا من الاهتمام في البلاد رغم أن القضية كانت تعتبر ثانوية لدى الأوكرانيين. وقالت فاسيلينكو: “لسنا أعضاء في الاتحاد الأوروبي وسكاننا يركزون بشدة على تطورات الحرب، خاصة في خاركيف ودونيتسك حيث احتدم القتال في الأسابيع الأخيرة. لكن موضوع (الانتخابات الأوروبية) حظي باهتمام واسع في وسائل الإعلام والدوائر السياسية.”
ولعل أبرز ما يثير قلق الأوكرانيين، “الروابط المالية” المفترضة بين بعض الأحزاب اليمينية الأوروبية وروسيا، والتي أثارت في السابق كثيرا من الجدل، وحتى بعض الفضائح، في النمسا وفرنسا وألمانيا.
“خطط استباقية لمواجهة هذه المخاوف”
يعلق عامر سبايلة، وهو خبير استراتيجي ومحلل سياسي، على هذه القضية قائلاً، ينبغي الأخذ في عين الاعتبار أن مسألة دعم أوكرانيا “ما زالت مستمرة”.
وأضاف سبايلة، إن “التحرك داخل الأروقة السياسية الأوروبية مع هذا التغيير (صعود اليمين) يضع أوكرانيا كنقطة فاصلة. يتزامن ذلك أيضا مع التغير المتوقع بالولايات المتحدة في حال وصول الجمهوريين (دونالد ترامب) إلى السلطة”.
في المقابل، قلل حسين الوائلي، الصحافي المعتمد لدى الاتحاد الأوروبي، من مخاطر صعود اليمين واعتبر أن الأخير لا يستطيع أن يعرقل خطط دعم أوكرانيا لأنه “لا يمثل الأغلبية”. وتابع إن الاضطلاع بهذه الملف هو من صلاحية وزارات الخارجية في دول التكتل، وبالتالي فإن هذا المسار “يمر عبر مراكز القرار التنفيذية ولا يتدخل البرلمان الأوروبي تحديدا فيه”.
ولفت الوائلي إلى وجود “خطط استباقية لمواجهة مثل هذه المخاوف”، مثل القمة الأوروبية المنعقدة مطلع العام الجاري في بروكسل والتي أقرت مساعدات مالية لأوكرانيا بقيمة 54 مليار يورو.
كما أشار محدثنا إلى صندوق اقترحه حلف شمال الأطلسي مسبقا ويمكن الاعتماد عليه حتى في احتمال عودة ترامب أو صعود اليمين، “ومن ثمة فإن هذه الإمدادات المالية والعسكرية لا زالت مستمرة ولا يمكن عرقلتها. هناك إذن خطة مالية وإنتاج للأسلحة وهناك رؤى لبعض الدول الأوروبية أن تدفع بانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي. دول الناتو تعمل بشكل جدي لجعلها عضوا في الحلف”.
توغل روسيا شرقاً
وحذّر الصحافي الوائلي من أن عرقلة دعم أوكرانيا “قد يدفع الروس إلى التوغل شرقا في دول مثل لتوانيا، لاتفيا، إستونيا”.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حذر في أواخر مايو/أيار من “عواقب خطيرة” إذا ما أعطت الدول الغربية موافقتها لأوكرانيا على استخدام أسلحتها لضرب بلاده.
وقال بوتين: “في أوروبا، وخاصة في الدول الصغيرة، يجب أن يكونوا مدركين لما يقومون به. يجب أن يتذكروا أنهم دول ذات أراض صغيرة مع كثافة سكانية عالية. يجب أن يأخذوا ذلك في الاعتبار قبل الحديث عن ضرب الأراضي الروسية في العمق”.
وهذه الدول التي هدّد بوتين بضربها، هي حسبما قال لنا المحلل السياسي محمود الأفندي في تصريحات سابقة، “دول البلطيق الثلاث ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا، خصوصا وأن هذه الدول هي التي تقف وراء المبادرات التي نراها الآن وتقود نحو التصعيد الغربي. كما أن هناك سبب آخر هو أهميتها الاستراتيجية وتواجد جيب كالينينغراد (جنوبها) ما يعني فتح روسيا ممرا بريا للوصول إلى هذه المدينة”.
تناغم التغيير بين أوروبا والولايات المتحدة
بالعودة إلى موضوع اليمين ، أكد عامر سبايلة بأن وصول التيارات الشعبوية إلى السلطة في دول أوروبية كثيرة قد يتسبب في فقدان “مسألة أوكرانيا أولويتها، وهو ما يعني وجود تناغم ما بين التغير الحاصل في السياسة الأوروبية والتغير المحتمل المقبل في واشنطن”.
كما لفت الخبير الاستراتيجي أيضا إلى أن ذلك سيحول قضية أوكرانيا إلى “مجرد مادة في السياسة الداخلية باعتبار أنها أصبحت أقرب إلى فكرة حرب الاستنزاف بما في ذلك الاقتصادي، إلى جانب انعكاساتها الأمنية والمجتمعية”.
سيناريو عودة ترامب
على الصعيد الأمريكي، لم يتوان ترامب خلال تجمع انتخابي في كارولاينا الجنوبية مطلع فبراير/شباط، الإعلان عن أنه قد “يشجع” روسيا على مهاجمة الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي التي لا تفي بالتزاماتها المالية في حال عودته إلى البيت الأبيض بعد انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني.
وينتقد ترامب بانتظام حلفاءه في التحالف العسكري لعدم تمويل المؤسسة بشكل كاف. وهدد مرات عدة بالانسحاب من التحالف في حال عودته إلى البيت الأبيض، وهو ما يثير قلقا كبيرا حيال مصير الدعم الأمريكي للأوكرانيين.
لكن أنطون جيراشينكو مستشار وزير الداخلية الأوكراني قال، إن بلاده لا تخشى من سيناريو عودة ترامب إلى الرئاسة. وصرح في هذا الشأن: “الحقيقة، وإذا صيغ الأمر بهذه الطريقة، فإننا لم نعد خائفين بتاتا. لقد توقفنا عن الخوف إلى الأبد بعد 24 فبراير/شباط 2022. نحن نقاتل ونتحرك. لا أعتقد أن ترامب هو كما تصوره الدعاية الروسية”.
وتابع جيراشينكو: “رغم أن الكثير من الأمور تعتمد على الرئيس الأمريكي، لكن هناك أيضا الكونغرس والحكومة والشعب الأمريكي. أنا أعرف أن الكثيرين في الولايات المتحدة يقفون إلى جانب أوكرانيا ويدعمونها، بإخلاص، وفعالية، وبإصرار عظيم”.
والأربعاء، توصلت دول حلف شمال الأطلسي إلى تعهد مخفف لمواصلة تزويد أوكرانيا بأسلحة تبلغ قيمتها نحو 40 مليار يورو العام المقبل، في مبادرة سيتم الكشف عنها في قمة الناتو التي تعقد في واشنطن الأسبوع المقبل.
لكن دبلوماسيين قالوا إن الولايات المتحدة شدّدت على وجوب أن تتم مراجعة التعهد غير الملزم قانونا العام المقبل. وأوضحوا أن حجة واشنطن هي أنه ليس من الممكن إلزام أي إدارة مستقبلية في البيت الأبيض بالإنفاق. كما سيسعى التحالف أيضا إلى حماية شحنات الأسلحة من عودة محتملة لدونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية من خلال إبقاء السيطرة على تنسيق الإمدادات بيد التحالف بدلا من واشنطن.
فكرة السياسة الواقعية
تعقيبا، قال عامر سبايلة إن هذا التحرك على المستوى الأوروبي “يحاول أن يستبق كل السيناريوهات عبر الترويج لأهمية هذه الحرب وخطر انتصار روسيا، وأيضا بداية الاستعداد لاحتمال حدوث تغيير في الولايات المتحدة عبر محاولة إبقاء أوكرانيا كأولوية، ومنه جاء طرح وزير خارجية ألمانيا موضوع ناتو أكثر أوروبية، وهو ليس طرح جديد بل ظهر مع وصول ترامب للمرة الأولى عندما تحدث مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وأنغيلا ميركل (المستشارة الألمانية السابقة) عن موضوع الجيش الأوروبي. إذن فالأولويات اليوم هي على أبواب التغيير سواء على المستوى الدولي، أو على مستوى السياسة الداخلية في الاتحاد الأوروبي”.
وأضاف سبايلة بأن تغير المواقف الغربية حيال دعم أوكرانيا هو “ليس تخليا عنها بقدر ما أن الأمور يمكن أن تفرض عبر فكرة السياسة الواقعية تدريجيا لإيجاد حلول وإنهاء هذه الأزمة، التي تُسوّق على أنها صراع استنزاف. أعتقد أنه في حال تغير في مواقع القرار سواء بواشنطن أو في أوروبا، فإن الحديث عن إغلاق هذا الملف سيكون أكثر جدية”.
من جانبه، يرى حسين الوائلي بأن الاحتمال الوحيد لحدوث عرقلة فيما يخص اكتساح اليمين المتطرف للسياسة الأوروبية، سيكون محصورا على “بعض الدول السيادية في الاتحاد مثل فرنسا. حيث إن صعود جناح جوردان بارديلا سيكون خيارا فرنسيا وليس أوروبيا”. وبالتالي، ينبغي النظر حسبه إلى النصف الممتلئ من الكوب، أي وجود “189 مقعدا يحوزها حزب الشعب الأوروبي وهو يمثل يمين الوسط المنحاز جدا لدعم أوكرانيا، كما أن هناك اليسار الذي من الصعب تخيل أن يتحالف في البرلمان لعرقلة هذه الخطط التي وضعت مسبقا وتم إقرارها فعلا واكتسبت الدعم الأوروبي القطعي، إن ماليا، أو بالنسبة إلى الدعم بالسلاح، وأيضا من الناحية القانونية”.