أيرلندا وفلسطين واقتصاد مستوطنات الاحتلال

معتز الفجيري

يسعى نواب في البرلمان الأيرلندي، وبعض الكتل السياسية ذات الميل اليساري في أيرلندا، إلى تمرير مشروع قانون مطروح على البرلمان منذ عام 2018، عرف بمشروع قانون مراقبة النشاط الاقتصادي (قانون الأراضي المحتلة)، يهدف إلى وقف كامل وتجريم استيراد البضائع والخدمات الإسرائيلية الواردة من الأراضي المحتلة والمستوطنات. وقد تجدّد طرح هذا المشروع بقوة خلال العام الأخير في أعقاب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، وخاصة بعد صدور الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في يوليو/ تموز 2024 بشأن التداعيات القانونية للاحتلال الإسرائيلي الأراضي الفلسطينية، والذي شدّد على مسؤولية جميع الدول على عدم الاعتراف أو المساعدة على إسباغ الشرعية على الاحتلال والتوسّع الاستيطاني في فلسطين. بشكل عام، تتخذ الحكومات الأيرلندية المتعاقبة مواقف داعمة وبشكل متّسق للقضية الفلسطينية، والتي تتجسّد في خطاباتها السياسية وتحركاتها الدبلوماسية في الأمم المتحدة وداخل الاتحاد الأوروبي. وفي يناير/ كانون الثاني الماضي، انضمّت أيرلندا رسمياً داعمة لجنوب أفريقيا في دعوتها المنظورة حالياَ أمام محكمة العدل الدولية، وتتّهم فيها إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزّة. وقد عبر المسؤولون الحكوميون الأيرلنديون عن دعمهم الكامل المحكمة الجنائية الدولية، واحترامهم تنفيذ ما صدر عنها من مذكّرات توقيف ضد نتنياهو ووزير دفاعه. من ناحية أخرى، لم تتوقف ميادين دبلن عاصمة أيرلندا منذ الشهور الأخيرة من عام 2023 عن احتضان مظاهرات ومسيرات أسبوعية، دعما لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وإدانة للجرائم الإسرائيلية. وفي مقابل ذلك، تعرّضت الحكومة الأيرلندية لحملات دعائية مضادّة من دولة الاحتلال، وسحبت تل أبيب السفيرة الإسرائيلية في دبلن في منتصف العام الماضي، اعتراضاً على التوجهات السياسية الأيرلندية. يتسق الدعم الأيرلندي لفلسطين مع تاريخ هذا البلد، وتقديره قيمة الحقّ في تقرير المصير، حيث ناضل الشعب الأيرلندي طويلاً في القرنين التاسع عشر والعشرين للاستقلال عن الإمبراطورية البريطانية. في هذا السياق، قال رئيس الوزراء الأيرلندي السابق ليو فارادكار، في لقاء مع الرئيس الأميركي السابق جو بايدن في مارس/ آذار 2024: “نحن نرى تاريخنا في عيون الفلسطينيين”.

ولكن يبدو أن تمرير مشروع قانون الأراضي المحتلة يتجاوز الحدود التي يمكن لأيرلندا بوصفها دولة أوروبية صغيرة أن تخطو بها وحدها في المحيط الجيوسياسي الغربي الراهن. سعت الحكومات المتعاقبة، والتي تمثل منذ سنوات تحالفاً بين حزبي يمين الوسط الأكبر في أيرلندا فيانا فايل (الحزب الجمهوري)، وفاين جايل (العائلة الأيرلندية)، إلى تأجيل النظر في مشروع القانون. هناك تفسيرات قانونية وسياسية مختلفة لتأجيل صدور مشروع القانون، رغم ما يحظى به من دعم سياسي وشعبي وإعلامي. من الناحية القانونية، وحسب الرأي الفني الصادر أخيراً عن مكتب المحامي العام الأيرلندي، تمنع التزامات أيرلندا، بموجب قانون الاتحاد الأوروبي، والذي له صفة أعلى من دساتير الدول الأعضاء، أيرلندا من تطبيق حظر شامل على استيراد البضائع والخدمات الإسرائيلية القادمة من الأراضي المحتلة. ففي الوقت الحالي، اتجهت تفسيرات محكمة العدل الأوروبية إلى أن الشرط الواجب هو فقط تمييز مصدر هذه البضائع والخدمات بشكل واضح، باعتبارها مستوردة من المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. كما تلزم المحكمة استبعاد الأراضي الفلسطينية المحتلة من نطاق تطبيق اتفاقية الشراكة الأوروبية الإسرائيلية. يصطدم هذا التفسير الضيّق مع تفسيرات أخرى ترى أن النتيجة المنطقية لما قالته محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري من التزام الدول بالامتناع عن إضفاء الشرعية على وضع الاحتلال والمستوطنات. ولكن، طبقاً للمحامي العام الأيرلندي، تبنّي الحكومة الأيرلندية هذا التفسير سيدخلها في صدام قانوني مع المفوضية الأوروبية والأجهزة القضائية الأوروبية وباقي الدول الأعضاء.

التفسير القانوني لعدم تبنّي مشروع القانون ليس هو الأكثر حسماً لفهم ما يجري، حيث كان يمكن للحكومة الأيرلندية، بالتزامن مع حماسة المجتمع السياسي لإعادة طرح مشروع القانون عام 2024 بعد العدوان على غزّة، تبنّي القانون، ثم الدفع بالمحدّدات العليا في قانون الاتحاد الأوروبي ومعاهداته التأسيسية في تأكيدها على التزام قانون الاتحاد الأوروبي بالقانون الدولي، وخوض هذه المعركة القانونية على المستوى الأوروبي، مع الاستناد لمواقف محكمة العدل الدولية. المعضلة الكبرى التي تواجه أيرلندا حالياً في اتخاذ خطواتٍ أبعد في دعمها القضية الفلسطينية سياسية واقتصادية في المقام الأول. وقد شكّل فوز ترامب بالرئاسة في واشنطن مصدراً لقلق الحكومة الأيرلندية، نظراً إلى عمق العلاقات الأميركية الأيرلندية، خاصة في ظل التحالف الحاكم الحالي. يخشى هذا التحالف من أنه ستكون للذهاب بعيداً في مواجهة إسرائيل عواقب وخيمة على العلاقات مع الولايات المتحدة، مع ما لذلك من عواقب اقتصادية مباشرة لن تستطيع البلاد تحمّلها في ظل اعتماد الاقتصاد في أيرلندا على استضافة عديدٍ من الشركات الأميركية العاملة في قطاعات التكنولوجيا وصناعة الأدوية. وقد ظهر هذا التخوّف بشكل واضح مع حرص رئيس الحكومة الأيرلندية مايكل مارتين ووزير خارجيته سيمون هاريس على زيارة مكثفة إلى واشنطن وعدد آخر من الولايات، والتقاء مارتن مع ترامب ونائبه مع حرصه على عدم إثارة أي خلافات مع الولايات المتحدة بشأن سياساتها في الشرق الأوسط. من ناحية أخرى، وعلى الرغم من اتساع حجم التعاطف والتضامن الشعبي مع فلسطين، أيرلندا مثل باقي الدول الأوروبية تواجه، هي الأخرى، نمواً متسارعاً في السنوات الأخيرة في اتجاهات اليمين المتطرّف والمعادي للمهاجرين وسط الناخبين وبعض السياسيين، والتي تنجذب لترامب، وتميل أيضاً إلى دعم إسرائيل.

تجد الحكومة الأيرلندية نفسها مضطرّة لإحداث توازناتٍ دقيقةٍ، داخلية وخارجية، تجعلها متردّدةً في اتخاذ خطوةٍ تصعيديةٍ في سياساتها الخارجية، وبالتأكيد ستصطدم مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي، والإدارة الأميركية وإسرائيل. وحتى وإن لم تتمكّن أيرلندا من تبنّي مشروع قانون الأراضي الفلسطينية المحتلة، فقذ اتخذت بالفعل هذه الدولة الكثير من الخطوات السياسية والقانونية المساندة لفلسطين والفلسطينيين في ظل فشل دول عربية كثيرة، أقرب تاريخياً وجغرافياً وعروبياً للقضية الفلسطينية من التصدّي لآلة القتل الإسرائيلية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى