أي خارطة طريق بين مصر وتركيا
محمد أبو الفضل
تشير علامات التذبذب في الخطاب التركي نحو مصر مؤخرا إلى قدر عالٍ من الارتباك في تحديد البوصلة، وعدم اليقين في إمكانية حدوث اختراق إيجابي في شكل العلاقات المتوترة منذ حوالي سبعة أعوام، وتوحي بأن طريق الغطرسة الذي تمضي فيه أنقرة لم يعد مجديا، ولا بد من وقفة وتغيير تكتيكي لامتصاص الغضب العارم.
تراجع المفعول السياسي والأمني لورقة الإخوان، وفقدت المتاجرة بالتنظيمات المتطرفة بريقها إقليميا ودوليا، وتقود المناكفات في شرق البحر المتوسط إلى صدام مع قوى متعددة، ويواجه التمدد في ليبيا والتمادي في إرسال المرتزقة بحسم حاليا، وبات الحصول على قاعدة عسكرية في أي من المناطق الليبية خطا أحمر لدول عدة، ناهيك عن الانزعاج الدولي المتصاعد الذي يلاحق تركيا في الكثير من تصوراتها.
وسط هذه المتغيّرات وما تحمله من ارتدادات عكسية، قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، الأربعاء، إن بلاده ومصر “تسعيان لتحديد خارطة طريق بشأن علاقاتهما الثنائية”، في إشارة تحمل معنى ضمنيا بإمكانية التوصل إلى قواسم مشتركة، وأن هناك تفاهما مبدئيا حول الخطوط العريضة يمكن أن يتبلور في رؤية واضحة.
زاد الرجل في تصريحات نشرتها قناة “تي.آر.تي” التركية على حسابها على تويتر، بالتأكيد أن التواصل مع مصر على الصعيد الاستخباراتي “مستمر لتعزيز العلاقات، والحوار قائم على مستوى وزارة الخارجية، وهناك مساعٍ للتحرك وفق مبدأ عدم التضارب في المحافل الدولية”، ما يشي بتهدئة محسوبة.
رغم مغزى العبارات السياسية التي حملها حديث جاويش أوغلو، وهي ليست الأولى من نوعها، لم يصدر عن القاهرة رد رسمي يعزز ما ذهب إليه من ترويج لخطاب إيجابي، ما يعني التحفظ على ما ذهب إليه أو أنه سابق لأوانه ولا تزال هناك قضايا معلقة لم يتم حل ألغازها، ويحتاج خضوعها إلى اختبار حسن نوايا، فأنقرة التي اعتادت عقد صفقات والدخول في مساومات، اعتادت أيضا المماطلة والمناورات.
تنتهج تركيا خطابا وديّا تجاه مصر أو غيرها عندما تجد نفسها في موقف أقل قوة، وأقرب إلى الضعف الذي يؤدي إلى عدم القدرة على الصمود، أو عندما تجد أن الإصرار على نهجها سوف يكبّدها خسائر باهظة، وأن الجهات المقابلة تقبض على زمام أمور تمثل وجعا لها، إذا لم تتراجع وتعود على الفور إلى جادة الصواب.
يعيش النظام التركي الحالتين معا، فمع تزايد الضغوط الدولية والتلويح بتوسيع نطاق العقوبات من قبل الولايات المتحدة واستنفار الاتحاد الأوروبي إزاء تحركاته مع قبرص واليونان، أصبح منزعجا من استهدافه عمليا، ويخشى الخروج من دائرة التهديد إلى الفعل، وينحدر تدريجيا نحو فقدان القدرة على الصمود والمجابهة للدرجة التي يمكن أن تتبعثر أوراقه الاستعراضية والرمزية التي درج على استخدامها.
على الناحية الأخرى، أحرزت مصر تقدما لافتا على مستوى ثبات واستقرار أوضاعها في الداخل، وعلى مستوى القضايا التي يتشابك فيها الطرفان، فبدأ الخطاب التركي يستهلك جزءا من رصيده، فلا النظام المصري سقط، ولا جماعة الإخوان تمكنت منه أو حققت أغراضها، ولم يحدث انتصار مؤزر في شرق المتوسط.
وليبيا التي بدت أنقرة متفوقة فيها، قامت القاهرة باستدارة سياسية لتطوير العلاقات مع قوى متباينة في الغرب، تضاف إلى انفتاحها على قوى في الشرق والجنوب، في محاولة لحرمان تركيا من ميزة نسبية استأثرت بها من خلال تطوير علاقاتها مع الأطراف المختلفة في العاصمة طرابلس، مكنتها من التمركز بجوار حكومة الوفاق.
يبدو حديث جاويش أوغلو هذه المرة منطقيا، فتركيا لا تريد أن تتحمل وطأة الشد المستمر في المنطقة، خاصة أنها تعلم أن إدارة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن قد تكون أكثر حسما معها من إدارة سلفه دونالد ترامب.
وهي النقطة ذاتها التي تلتقي معها مصر فيها، حيث تشعر أنها مقبلة على شد جديد مع واشنطن في ملف الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتريد تخفيض مستوى التوتر مع تركيا، أملا في تحجيم جيوب الإخوان، إعلاميا وسياسيا.
تفضي المساحة المشتركة الظاهرة إلى تقريب المسافات في الفترة المقبلة، مع مراعاة أن تركيا والسعودية تميلان إلى التفاهم، والأزمة مع قطر يمكن أن تنفرج، والمنطقة يمكن أن تشهد تحولات في الروابط الإقليمية التقليدية، لذلك يعد الصدام مباشرة بين البلدين غير مجدٍ للطرفين، ويدركانه الآن ويعملان على استثماره، كلّ بطريقته وأهدافه، ما يمنح حديث وزير الخارجية التركي مصداقية أكثر من ذي قبل.
إذا كانت ملامح التفاهم غير مستبعدة لاحقا بين أنقرة والقاهرة، فأي خارطة طريق يمكن الالتفاف حولها، وأي قواعد يمكن أن يقبلها الطرفان بعد كل العناء، وأي صيغة توازنات تبدو مريحة في أزمات إقليمية تتجاوز حدود البلدين، فهناك قوى أخرى ملتحمة فيها ومعها، ما يجعل فكرة خارطة الطريق تتخطى أنقرة والقاهرة.
تمثل هذه الثغرة عيبا وميزة في آن واحد. عيب لأنها تحتاج إلى مباركة قوى قريبة من البلدين أو تدور في فلكهما. فتسوية ملف الإخوان لم يعد شأنا مصريا فقط، حيث أدرجتهم بعض الدول على لوائح الإرهاب فيها، وقبول القاهرة بصفقة مرضية لها بحاجة إلى تعاون وتنسيق مع حلفائها أيضا. وميزة لأن هذا الملف يضع تركيا أمام مسؤوليتها الدولية ويجبرها على تقديم ضمانات بعدم التلاعب مستقبلا.
يمكن القياس على ذلك في ملفات تبنّت فيها مصر سلوكا إقليميا ودوليا منضبطا، ولم تنفرد بمواجهة تركيا، وحرصت على أن يكون التصدي ذا أبعاد متينة، الأمر الذي يجعل الخارطة التي أشار إليها جاويش أوغلو عنوانا عريضا من الواجب أن يراعي هواجس اختارت مصر أن تصبغها بإطار كبير، تحسبا من قيام أنقرة بممارسة ألاعيب خادعة.
تتخطى عملية المصالحة بين البلدين بعدها الثنائي، ولن تكون حاجة كل طرف هي المتحكمة في مفاصل العلاقات وحدها في الفترة المقبلة، لأن الخصومة أخذت طابع التدويل منذ البداية، وكخارطة للتفاهم لا بد أن تراعي ذلك وإلا ستكون خالية من الضمانات، أو تدخل في إطار تعاطي مسكنات سياسية لتجاوز مرحلة مجهولة.
يتأسس هذا الاستنتاج على التضارب بين التوجهين المصري والتركي، فالمساحات والفواصل بينهما ممتدة ويصعب طيّها بمجرد غزل عفيف من مسؤول تركي لا أحد يعرف ما يحمله في باطنه، لأن فكرة الخارطة في خطابه تتضمن حلولا نهائية لا رجعة أو صدفة فيها، بينما الواقع مليء بمطبات وعراقيل لن تفلح معها تسوية مؤقتة لمجرد سد حاجات عاجلة تفرض التقاط أنفاس لاستشراف طبيعة المرحلة القادمة.
الأوبزرفر العربي