أي سقف لعلاقات مصر مع تركيا
محمد أبو الفضل
أدلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أخيرا بتصريحات متفائلة حول مستقبل علاقات بلاده مع مصر أوحى فيها بأنها واعدة، وتوقع الكثيرون أن تشهد تقدما كبيرا خلال الفترة المقبلة، وهو ما لم تعلق عليه القيادة المصرية رسميا.
يريد أردوغان العودة إلى سياسة تصفير الأزمات التي أعلنت عنها أنقرة منذ سنوات ونكصتها سريعا. ويعمل على تكييف أدواته وفقا لتقديراته السياسية. وهي أزمة تكشف جانبا عميقا من الانتهازية التي تجبره على التنازل تكتيكيا، لأن البعد الغاطس في التوجهات العامة لم يتغير، ما يضع حدا لمستقبل العلاقات مع أي دولة تقف على الطرف المقابل لتركيا.
في حالة مصر، لديها حزمة من المطالب استجاب أردوغان لبعضها ولم يستجب للكثير منها، بما جعل رغبته في تحسين علاقاته الإقليمية جزءا من أجنداته الداخلية والخارجية التي تحد في النهاية من التطلعات الرامية للوصول إلى مرحلة التطبيع الدبلوماسي، وما هو أبعد من ذلك لن يكون متسقا مع مزاج القاهرة.
استغل الرئيس التركي ما يوصف بالنقلة النوعية في علاقاته مع دولة الإمارات العربية وقبلها السعودية، وحاول الإيحاء بأنه سوف يسير على المنوال نفسه مع كل من مصر وإسرائيل، ربما تكون الأخيرة استطاعت أن تستوعب شروده السياسي بدليل أن علاقاتها العسكرية والاستخباراتية بأنقرة لم تتغير.
لكن الحال يختلف مع القاهرة، حيث دخلت العلاقات نفقا مسدودا طوال سبع سنوات، أي منذ سقوط نظام حكم جماعة الإخوان في مصر عام 2013 وحتى بدايات العام الجاري، الذي شهد محادثات أمنية ثم حوارات استكشافية، إلا أن اللقاءات المعلنة توقفت عند لقاءين، أحدهما في القاهرة والثاني في أنقرة.
اتخذت تركيا مواقف إيجابية تكتيكية قوضت بموجبها التحركات الإعلامية والسياسية والأمنية لإخوان مصر على أراضيها، وهو ما لم يحقق الطموحات المصرية التي تمتد إلى تبرؤ أنقرة تماما من دعمها للجماعات المتطرفة، وتقوم بتسليم عدد من القيادات المتورطة في أعمال إرهابية داخل مصر.
بدت عملية السيطرة على تصرفات الإخوان مقبولة من جانب مصر كعربون لاستمرار الحوار، لكن لم تتخذ تركيا الكثير حول انسحاب قواتها العسكرية من ليبيا وسحب المرتزقة.
لم يكن توقف أنقرة عن التحرش بمصر أمنيا وسياسيا وإعلاميا منبعه رغبة في تحسين العلاقات معها، بل يعود إلى توصيل انطباعات بأن النظام يعيد ترتيب أوراقه، وقد بدأ مع أهم ثلاث دول عربية، مصر والسعودية والإمارات، ليؤكد أن هناك تغيرا حقيقيا يساعده على تطوير علاقاته مع دول أخرى، ويقوّض التصورات المناهضة له، وهي انحناءة لم تصل إلى المستوى الاستراتيجي.
من هذا المنظور فهمت القاهرة رسائل أردوغان وتعاملت معها بحنكة من دون أن تمانع في التجاوب معه، كلما تقدم خطوة تقدمت خطوة مماثلة أو أقل، لأن حدوث تحول كبير في العلاقات يقود إلى عودة فورية للعلاقات الدبلوماسية من الصعوبة أن يتحقق مع وجود نظامين في كل من القاهرة وأنقرة على طرفي نقيض.
يفهم كل جانب هذه المعادلة، ولا يسعى لأبعد من توفير أجواء من الهدوء، يحاول كلاهما توظيفها بالطريقة التي يراها مناسبة لرؤيته الإقليمية، فتجنب الصدام كان عنصرا أساسيا ومشتركا وقت الشدة، فرغم لهجة التصعيد المتبادلة ظل الاشتباك السياسي محكوما بضوابط منعته من بلوغ حافة الهاوية.
مع نزول أردوغان من أعلى الشجرة التي صعد إليها السنوات الماضية وبدء حوار قد يقود إلى تقارب سياسي مع مصر لا تنتظر القاهرة منه التوصل إلى صيغة تتخطى الحفاظ على درجة جيدة من الهدوء، أو بمعنى أدق ليس أكثر من الصيغة التي سادت خلال السنوات الأخيرة من حكم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، وفيها احتفظت العلاقات بين البلدين بدفء وفر لهما تعاونا نسبيا.
حتى هذه يمكن أن تدخل عليها القاهرة تعديلا بعد انكشاف وجه أردوغان، فقد تحولت وقتها تركيا إلى نموذج سياسي واقتصادي جيد في عيون شريحة كبيرة من المصريين، وكان لأنقرة رجالها في القاهرة الذين تولوا تسويقها وخداع النظام المصري.
ترتاح القاهرة في التعامل مع النظام التركي في ظل علاقات بعيدة عن التصعيد والتقارب الشديد، وكل ما تطمح إليه أن يكف عن مناكفتها، ولا يرهقها في ملاحقته في فضاءات مختلفة، لأن هذا يستنزف جهدا كبيرا تستطيع تسخيره في أشياء أخرى، فقد دفعت مصر ثمنا باهظا نتيجة احتضان تركيا لقيادات الإخوان والمتطرفين.
ما يخطط له النظام التركي لن يتجاوب معه نظيره المصري، فأن يكون رقما رئيسيا في منتدى شرق المتوسط ضمن منظومة لعبت القاهرة دورا محوريا فيها يحتاج إلى سلسلة من الخطوات تخص مصر وحلفاءها في المنطقة معا، وهي التي لجأت إلى طمأنتهم في كل مرة يتم فيها الحديث عن تطور في علاقاتها بأنقرة.
لا تريد مصر استبدال ما هو أدنى بما هو أكبر في علاقاتها الإقليمية، فمهما تطورت الروابط مع تركيا تظل متوقفة عند مستوى يصعب تجاوزه، لأن الطريقة التي يعتمد عليها نظام أردوغان لا توفر فرصة للثقة الكاملة فيه بما يسمح بتقدم غير مألوف.
تضع مصر في حسبانها الموقف الأيديولوجي للنظام التركي الذي لن يتغير مستقبلا، وتعلم أن أحلامه في المنطقة العربية من سوريا إلى العراق وليبيا لن تتبدل، وتدرك أن الاقتصاد التركي قوي مقارنة بنظيره المصري، والتوازن الذي تطمح إليه مع كثير من القوى الإقليمية غير موجود في حالة تركيا، ما يجعل الأمر مختلا.
يبدو الاكتفاء بتوفير الهدوء مع أنقرة وسيلة ناجعة للقاهرة، وإذا استطاعت ضمان توفيره على المدى المنظور لن تتردد في اتخاذ خطوة لعودة العلاقات الدبلوماسية قريبا، فمن أدبيات السياسة المصرية وضع خصمك تحت عينيك أفضل من الدخول في خصومة طويلة معه، خاصة عندما تكون الخصومة مصحوبة بمنافسة أو عداء.
طبقت مصر هذا المنهج مع حركة حماس ونجحت في تدجينها إلى حد بعيد والحفاظ على أمنها من ناحية سيناء، وهي تعلم أن ميولها إخوانية، وشرعت في تطبيق هذا النموذج مع قطر وتعلم أنها لم تدخل تعديلا كبيرا في تصوراتها السابقة، ولن تمانع في تكرار التجربة مع تركيا طالما أنها تلتزم بعدم المساس السافر بالأمن القومي.