إخوان ليبيا والتذاكي لتجاوز العزلة والتحولات الإقليمية
الحبيب الأسود
مناورة جديدة من إخوان ليبيا، تمثلت في قرارهم بتغيير هويّتهم التنظيمية من جماعة الإخوان المسلمين إلى جمعية الإحياء والتجديد في محاولة لتجاوز عزلتهم الاجتماعية والسياسية، واستباقا للمواعيد السياسية القادمة ومنها الانتخابات المقررة في الرابع والعشرين من ديسمبر، وكذلك لتلافي ما قد تتعرض له الجماعة الأمّ من ارتدادات نتيجة التحولات الواضحة وخاصة في علاقة العرّابين التركي والقطري مع مصر ودول الخليج.
تعرضت جماعة الإخوان إلي الحظر في ليبيا في عهد الملك إدريس وفي عهد معمر القذافي، كان ذلك بسبب نزعتها الانقلابية منذ تأسيس الدولة، ومساعيها إلى التغلغل في أجهزة الحكم، وفشلت في إيجاد حاضنة شعبية حقيقية داخل المجتمع المحافظ بطبعه، في حين كان أغلب عناصرها من الطلبة المبتعثين للخارج منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، وممن آثروا بعد تخرجهم البقاء في عواصم الغرب، وارتبطوا بأجهزة الاستخبارات، واستفادوا في تلك الفترة من الصراعات التي دخلها القذافي مع دول عربية وأجنبية، فحصلوا على الدعم السخي من حكوماتها.
جماعة الإخوان شهدت ما قيل إنها انشقاقات من قبل مكتبيها في الزاوية ومصراتة، كما أعلن رئيس المجلس الاستشاري خالد المشري استقالته من الجماعة
بالمقابل، نتجت عن اتساع ظاهرة الإرهاب الدولي نشأة جماعات متشددة من صلب العقيدة الإخوانية دخلت بعد عودة بعض المسلحين من أفغانستان في مواجهات مسلحة مع النظام في شرق البلاد وخاصة في فترة التسعينات، وقبل 2011 كان مشروع ليبيا الغد بقيادة سيف الإسلام القذافي قد فتح باب المصالحة، وأدت الوساطة القطرية إلى انضمام عدد من قادة الإخوان إلى المشروع، وقام المتشددون داخل السجون بما قالوا إنها مراجعات فكرية، ساهم في إدارتها دعاة من الداخل والخارج من بينهم علي الصلابي ويوسف القرضاوي وسليمان العودة، وقام النظام بإطلاق سراح العناصر المتشددة التي سرعان ما انقلبت على أعقابها مع بداية أحداث فبراير، وقادت التمرد المسلح انطلاقا من شرق البلاد، واجتمع الإسلاميون بدعم دولي كبير على فكرة الإطاحة بالنظام، حيث تولى الإخوان إدارة الجناح السياسي فيما قاد متشددون من القاعدة الجناح العسكري، وتحولت ليبيا إلى مخبر حقيقي لمخطط التغيير العنيف ضد ما تبقى من أنظمة عقائدية في المنطقة.
وفي انتخابات 2012 فشل الإخوان أمام التيار الليبرالي الذي كان ممثلا في تحالف القوى الديمقراطية بزعامة الراحل محمود جبريل، ولكنهم وبالرغم من ذلك، سيطروا على المؤتمر الوطني العام باستقطاب النواب المستقلين سواء بشراء الذمم أو بالضغط والتأثير النفسي في ظل ما كان سائدا من مؤشرات حول دخول المنطقة عصر الإسلام السياسي، وفي 2014 فشل الإخوان للمرة الثانية في الانتخابات البرلمانية، فانقلبوا على نتائجها ودفعوا إلى حرب “فجر ليبيا”، ما أدّى إلى حالة انقسام بين شرق وغرب، وحرّكوا أدواتهم الإقليمية والدولية للضغط من أجل إيجاد حل سياسي على مقاس تطلعاتهم، ليضمنوا بذلك بقاءهم في السلطة والنفوذ، وهو ما تم فعلا من خلال اتفاق الصخيرات المبرم في ديسمبر 2015، والذي جاء بحكومة السراج، وأعطى لأعضاء المؤتمر الوطني السابق المنتهية ولايته صفة استشارية من خلال مجلس الدولة الذي سرعان ما تجاوز صلاحياته ليتحول إلى مؤسسة تشريعية تنازع البرلمان المنتخب صلاحياته.
وقام الإخوان بدور كبير في دعم الجماعات الإرهابية في شرق البلاد، وكانوا طرفا نشطا في محور الإسلام السياسي بزعامة قطر وتركيا، وخدما مطيعين للشركات العابرة للقارات المندفعة لوضع اليد على مقدرات ليبيا، وعرفوا كيف يسيطرون على سلطة الوفاق ومراكز نفوذها المالي والاقتصادي، وعلى القرار الإداري من خلال عناصرها العاملة في ظل الوزارات والمؤسسات السيادية، وللحفاظ على امتيازاتهم منعوا السراج من تنفيذ اتفاقه مع حفتر في أبوظبي أوائل 2019، ثم دفعوه إلى الاستنجاد بحليفهم التركي ومرتزقته، وعندما قررت البعثة الأممية تشكيل ملتقى للحوار السياسي، استطاعوا نيل أغلبية المقاعد فيه، سواء عن طريق عناصرهم المعلنة أو عن طريق مستقلين مزعومين أغلبهم يعيش خارج البلاد ولا يمثل أيّ فئة من الشعب.
هناك من وراء الحدود من يعمل بقوة من أجل التمكين للإخوان، أولا لأنه يدرك أنهم مستعدون لخدمة مصالحه ولو على حساب الشعب الليبي، وثانيا لأنهم باتوا يمثلون الفكرة التي يحاول الغرب نشرها في المنطقة، وهي تكريس الليبرالية الاقتصادية الجديدة، والدفع بلوبيات المال والأعمال إلى صدارة المشهد السياسي شريطة أن تكون تحت وصايتهم، فيما تعيش أغلب فئات المجتمع بحبوب التخدير الديني مكتفية بما تحصل عليه من أموال الصدقة والزكاة.
أغلب مراكز نفوذ إخوان ليبيا توجد في مناطق الساحل الغربي كمصراتة والزاوية وخاصة بين العاملين في مجال التجارة، إضافة إلى استقوائهم بأمراء الحرب وعناصر الميليشيات، لكن عددهم الحقيقي يبقى ضئيلا، وهم يعلمون جيدا بأنهم لن يستطيعوا الفوز في أيّ انتخابات، كما جاء على لسان رئيس حزب العدالة والبناء محمد صوان في تسجيل مسرّب، لذلك سعوا بكل إمكانياتهم إلى عرقلة انتخابات الـ24 من ديسمبر القادم، من خلال تمسكهم بأن يتم أولا الاستفتاء على مسودة الدستور المرفوضة من أغلب الليبيين، وهو ما يعني تأخير الاستحقاق الانتخابي.
وعندما أقرت التوافقات الإقليمية والدولية أنّ لا مجال للتراجع عن الموعد المحدد والذي سيتزامن مع العيد السبعين للاستقلال، طرحوا على اللجنة القانونية ضرورة تضمين مسودة مشروع آلية الانتخابات، بندا ينص على ألا يتم انتخاب رئيس للدولة عن طريق الاقتراع الشعبي المباشر، وإنما من داخل البرلمان القادم الذي يخططون للسيطرة عليه بالاعتماد على ترشيح من يرتبطون معهم بالمصالح ضمن لوائح مستقلة، وبتوجيه مقدراتهم المالية والإعلامية لصناعة تحالفات هدفها انتخاب رئيس للدولة يدور في فلكهم، وهم يصرون على أن لا يتم إخراج القوات التركية والمرتزقة، ورفض حل الميليشيات قبل الرابع والعشرين من ديسمبر، حتى يضمنوا عدم توفير فرصة لخصومهم السياسيين الفعليين سواء من أنصار الجيش أو النظام السابق للتحرك الفعلي في المنطقة الغربية ذات الثقل الديمقراطي والعدد الأكبر من مقاعد البرلمان، كما أنهم يجتهدون للإطاحة برئيس المفوضية الحالية للانتخابات والمجيء بمن يطيعهم في تمرير أجنداتهم.
لكن كل ذلك يحتاج من الإخوان إلى تلميع صورتهم، وإلى استبعاد أيّ حرج عمن يسعون لاستقطابهم في التحالفات القادمة، وبعد استشارات واسعة مع حلفائهم في الخارج كالأتراك والقطريين وحركة النهضة التونسية، ومع مراكز الأبحاث والعلاقات العامة التي يتعاملون معها وخاصة في واشنطن ولندن، قرروا تغيير اسم كيانهم العقائدي من جماعة الإخوان المسلمين فرع ليبيا إلى جمعية الإحياء والتجديد، وقالوا في بيان بتاريخ الـ2 من مايو 2020 أن “المدخل الحضاري للتغيير والنهضة هو العمل المجتمعي، للإسهام في قيام مجتمع مدني لا يضيق بالتنوع والاختلاف” في محاولة إيحاء منهم بأنهم اختاروا الجانب الدعوي “إحياءً بالدعوة إلى التمسك بمنهج الإسلام الوسطي وتعاليمه” مشيرين إلى أن الجمعية “ستؤدي رسالتها في المجتمع الليبي من خلال عملها الدؤوب في شتى مجالات العمل العام”، وفق نص البيان الذي كشف من داخل عباراته عن السبب الحقيقي لتغيير الجلد، بالحديث عن تعرض جماعة الإخوان في ليبيا لـ”التشويه والتزوير بغية إقصائها عن مجتمعها، ونشر ظلال الشك حول أهدافها النبيلة”، في إشارة إلى اكتشاف المجتمع الليبي حقيقة مشروعها التخريبي وممارساتها التقسيمية للمجتمع وصراعها الدائم لعزل خصومها السياسيين وشيطنتهم وتورطها في الفساد المالي والسياسي بعد سيطرتها على مراكز النفوذ تحت أغطية جهوية ومناطقية وحزبية وعقائدية، إضافة إلى ارتباطها المعلن مع الخارج، ومع مشروع عابر للحدود، كانت من أشد المتمسكين بعد 2011، ثم وبعد تراجع مد الإسلام السياسي، والمصالحة الخليجية، ورغبة تركيا صراحة في التقرب من القاهرة والرياض وأبوظبي، زعم إخوان ليبيا أنهم قرروا العمل من داخل البلاد فقط.
تعرضت جماعة الإخوان إلي الحظر في ليبيا في عهد الملك إدريس وفي عهد معمر القذافي، كان ذلك بسبب نزعتها الانقلابية منذ تأسيس الدولة
خلال الأشهر الماضية، كانت جماعة الإخوان قد شهدت ما قيل إنها انشقاقات من قبل مكتبيها في الزاوية ومصراتة، كما أعلن رئيس المجلس الاستشاري خالد المشري استقالته من الجماعة، وسبق للجناح السياسي للجماعة حزب العدالة والبناء أن أكد وجود خلافات بين الطرفين على ضوء الموقف من اتفاق الصخيرات، ولكن كل ذلك كان مجرد فرقعات في الهواء، الهدف منها إلهاء الرأي العام، وإقناعه بأن الإخواني يمكن أن يكون إخوانيا من خارج التنظيم، وهو ما لا يستقيم مع عقيدة الجماعة وقسم الولاء والطاعة، ومع غياب أيّ مراجعات حقيقية، حتى أن البيان الأخير، لم يتضمن أيّ مبررات فعلية للتخلي عن نظام الجماعة، ولم يتحدث عن مراجعات فكرية، ولم يستعرض أيّ انتقادات لتجربة الماضي، ولا لأداء الإخوان في المنطقة، ولم يتبرأ من دور الجماعة المحوري في أزمة السنوات العشر، وإنما اكتفى بإظهارها ضحية لعمليات التشويه والتزوير، في تأكيد على الاستمرار في اعتماد منهج المظلومية الزائفة التي تمثل أحد أبرز عناصر البناء العقائدي للتنظيم الإخواني.
يحاول إخوان ليبيا التذاكي لتجاوز العزلة الداخلية والتحولات الإقليمية، وقد اختاروا السير على منوال نظرائهم في تونس، الذين لا يزالون إلى اليوم ينكرون أنهم من الإخوان، ولكنهم في الوقت ذاته، يتخذون مواقفهم وقرارتهم ورؤاهم ويربطون علاقاتهم وتحالفاتهم الداخلية والخارجية، وفق ما تراه الجماعة من خلال تنظيمها الدولي، ويعملون على التغلغل في مفاصل الدولة، وعلى إنهاك المجتمع، وتنفيذ مشروعهم السياسي والاجتماعي وفق منهجية عقائدية إخوانية، كما أن رؤيتهم الاقتصادية مبنية على ذات المرجعية التي يعتمدها إخوان ليبيا، بزعم إيمانهم بالليبرالية الاقتصادية ومن ورائها الليبرالية السياسية لنيل رضا الكفيل الأميركي وإرضاء الحاضنين البريطاني والألماني المراهنين بقوة على الإسلام السياسي التونسي رغم فشله الصريح في الحكم وضعف أدائه السياسي وعزلته الاجتماعية والثقافية خلال السنوات الماضية، والراغبين في أن يسير إخوان ليبيا على منواله.