إخوان ليبيا يجيدون اللعب لتأبيد الأزمة
الحبيب الأسود
قريبا ستنتهي مهمّة ستيفاني ويليامز كرئيسة للبعثة الأممية بالوكالة في ليبيا، وتذهب مقاليد البعثة إلى الدبلوماسي السلوفاكي المخضرم يان كوبيتش، الذي أعلن عن تعيينه خلفا لغسان سلامة المستقيل أوائل مارس الماضي. وسيتم التوافق على تأخير موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية عن موعدها المحدد للرابع والعشرين من ديسمبر القادم، وسيتم تعيين سلطات تنفيذية موحدة تمارس مهامها من سرت. وليس مستبعدا أيضا أن ترفض حكومتا طرابلس وشرق البلاد الاعتراف بها، وبذلك تصبح لليبيا ثلاث حكومات، وسيتواصل انتشار القوات الأجنبية والمرتزقة في البلاد بعد مضي مهلة التسعين يوميا لسحبها، والتي تضمنها اتفاق جنيف في الثالث والعشرين من أكتوبر.
لا أحد ينكر أن ويليامز قد اجتهدت وحاولت إيجاد حل مناسب واجترحت الكثير من الآليات لتحقيقه، ولكنها تورطت بقصد أو دونه في الدفع نحو مأزق جديد بمساعدتها جماعة الإخوان على التغوّل عندما سلمتها مفاتيح الحوار وأدوات السيطرة والنفوذ على مجرياته بالأغلبية المريحة. ولكن بالمقابل يمكن فهم أسباب وقوعها في هذا الفخ. فالإخوان المرفوضون شعبيا، والذين حظر نظاما الملك والقذافي في السابق نشاطهم بسبب تآمرهم، لا يجيدون إلا ترتيب الصفوف والأوراق على مستوى نخبتهم التي تربت في أحضان الغرب، وترعرعت في أجهزة مخابراته، وتعلمت كيف تتبنى خياراته، وكيف تتظاهر بمظلومية زائفة لنيل تعاطفه معها، وكيف توزع أدوار منتسبيها بين قيادات معلنة وأخرى خفية، وبين من تدفعهم للتظاهر بمعارضتها لتستفيد منهم في الوقت المناسب، أو من تشتري ذممهم وتخترق بهم الصفوف المقابلة، حتى أن الجماعة تبدو وكأنها الوحيدة التي تمارس السياسة فعلا، بأساليب لا تدّخر أي شكل من أشكال المكر والخداع.
كثيرا ما يقال إن الفكر الإخواني يترعرع أكثر في المجتمعات التجارية، وهذا ما نراه في ليبيا. فمصراتة هي عاصمة التجارة والاقتصاد في البلاد، ومنها تنحدر أغلب قيادات الإخوان. ولكن العلاقة بين الطرفين اتخذت منذ الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي بعدا براغماتيا، تحدده حسابات الربح والخسارة. فالجماعة تمتلك العلاقات الدولية والغطاء الإعلامي والخطاب الدعوي الذي تستغله في السيطرة على الطبقات الفقيرة، وسعت إلى إظهار نفسها كنافذة على الليبرالية الجديدة بما يخدم مصالح كبار رجال الأعمال، وكعنصر توحيد لشتات البورجوازية الصغيرة. كما سعت بالأموال المتدفقة عليها من الخارج إلى السيطرة على بعض الميليشيات والدفع بها إلى تنفيذ المهمات القذرة، رغم أنها لا تدفع بأبنائها للقتال، وإنما تتبنى ضحايا الآخرين.
وعندما خسرت الجماعة انتخابات 2012 أمام تحالف القوى الوطنية فجّرته من الداخل واستقوت عليه بشراء المستقلين وبإخضاع السلفيين لإرادتها، ووضعت يدها على المؤتمر الوطني العام. وعندما منيت بهزيمة مدوية في انتخابات 2014 انقلبت عليها بالاعتماد على الحمية الجهوية والمناطقية، والدفع بالميليشيات إلى احتلال العاصمة من خلال منظومة فجر ليبيا. وتحرك حلفاؤها وأتباعها في الخارج لفرض رسكلتها من جديد من خلال اتفاق الصخيرات، وذلك عبر المجلس الأعلى للدولة الذي بدأ استشاريا وتحول إلى مشرّع للحلول والمواقف وصاحب تأثير بالغ في السلطة التنفيذية، ومحاور للبرلمان الشرعي في كل ما يتعلق بالسياسات والمفاوضات والتعيينات السيادية.
عندما وصل فايز السراج إلى طرابلس في فرقاطة إيطالية في أواخر مارس 2016، وجد من الإخوان دعما كبيرا، مقابل منحهم فرصة التغلغل في مؤسسات الدولة، وخاصة منها المالية والاقتصادية، واتجهوا للسيطرة على الوزارات من خلال الوظائف الفعّالة داخلها، وخاصة وظيفة وكيل الوزارة. فما يهمّ الجماعة هو الإمساك بالتفاصيل الدقيقة والوثائق والتحكم في القرارات الداخلية وإعداد برامج العمل بما يخدم مصالحها. وعندما اتجه السراج في مناسبات عدة للتفاوض مع المشير خليفة حفتر، كان الإخوان يتدخلون في كل مناسبة لإجباره عن التراجع عن اتفاق، وعندما احتدمت المواجهات في طرابلس في أواخر 2019 دفعوا به إلى إبرام مذكرتي التفاهم مع حليفتهم تركيا.
وعندما أطلقت البعثة الأممية خطتها للحوار السياسي من خلال ملتقى تونس، وكشفت عن خارطة الطريق، كان المنتمون علنا وفي الخفاء للجماعة قد حصلوا على أكثر من نصف مقاعد الملتقى، وهو ما منحهم فرصة المناورة. وكالعادة لعبوا على وتر الجهويات وقرروا الانقلاب على السراج والوقوف وراء وزير الداخلية فتحي باشاغا للدفع به إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، إضافة إلى محاولة التدخل في خيارات برقة لترشيح رئيس للمجلس الرئاسي.
وعندما توصلت البعثة الأممية إلى تصويت داخل لجنة الحوار لفائدة آلية انتخاب كبار المسؤولين الجدد، تمهيدا لتشكيل مجلس رئاسي وحكومة وحدة وطنية يشرفان على تنظيم الانتخابات المقرر تزامنها مع الذكرى السبعين للاستقلال، عمل الإخوان من خلال اجتماع الغردقة المصرية للجنة الدستورية، على فرض خيارهم بأن تجري الانتخابات وفق آلية دستور جديد، بما يعني الاتجاه نحو استفتاء على مسودة الدستور المرفوضة من البرلمان والجيش والقبائل والأقليات والتي لا تميل إليها إلا قوى الإسلام السياسي ولا يدافع عنها إلا مجلس الدولة الاستشاري نظرا لما تضمنته من فخاخ لا تبعد كثيرا عن فخاخ الدستور التونسي.
اليوم، هناك عراقيل عدة تواجه ليبيا وتكاد تعود بها إلى المربع الأول. فالسراج يصرّ على البقاء في منصبه مدعوما بميليشيات طرابلس والمدن الأخرى الواقعة إلى الغرب منها، ويحصّن نفسه بأمراء الحرب في المناصب الأمنية الحساسة، وباشاغا يستعد لمواجهة تلك الميليشيات والجماعات الإرهابية بدعم خارجي، وقبائل الشرق لن تقبل بأي تلاعب إخواني بعملية انتخاب السلطات الجديدة، والجيش والبرلمان والعرقيات يرفضون مسودة الدستور الحالية، واللجنة العسكرية تواجه واقعا على الأرض يقول إن المهلة التي أعطاها اتفاق جنيف للقوات الأجنبية والمرتزقة البلاد تنتهي اليوم، دون أن يتحقق ذلك، والميليشيات في مناطق التماس حول الخط الأحمر لا تزال تحول دون فتح الطريق الساحلي، والشعب يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة، حيث أن 1.3 مليون ليبي يحتاجون إلى المساعدات الإنسانية، وهناك 400 آلف ليبي نازحون من مدنهم وقراهم إلى مناطق أخرى.
من حق إخوان ليبيا أن يسعدوا بتحقيق الكثير من أهدافهم التكتيكية والاستراتيجية، ومن واجبهم أن يتقدموا بجزيل الشكر إلى المبعوثة الأممية بالوكالة التي لم تقصّر معهم، ووفرت لهم كل شروط الغلبة على الأغلبية الساحقة من الليبيين، عندما أعطتهم الكلمة الفصل في لجنة الحوار واللجان المنبثقة عنه، ووصلت بهم إلى حيث يشاؤون من الهيمنة على المشهد السياسي في البلاد، رغم فقدانهم لشرعية الشارع، ورفضهم من أغلب فئات الشعب. ولكن المؤكد والثابت، أنهم وإن كسبوا الكثير من الجولات، إلا أن الواقع على الأرض مختلف، ما يجعل من مكاسبهم سببا في استمرار الأزمة، وهي في كل الأحوال لا تقبل الترجمة إلى واقع جديد يفتح أمام البلاد أبواب الحل بعد عشر سنوات من الأزمة.
يجيد إخوان ليبيا اللعب، ولكن في ملعب أرادته البعثة الأممية على قياس استعداداتهم، لذلك تراهم يجرون لوحدهم تقريبا، الأمر الذي يجعلهم في مرمى لاعبين أكثر عددا وعدة، ويمتلكون القدرة دائما على إفساد فرحة الجماعة كلما اعتقدت أنها انتصرت.