إعادة اكتشاف القوة الناعمة لمصر
محمد أبو الفضل
راكمت مصر رصيدا كبيرا من القوة العسكرية المتقدمة، وتوسعت في أدواتها الأمنية، وتحاول زيادة الفعالية الاقتصادية بالتوسع في مشروعات تنموية ذات مردودات مادية، لكنها لم تعمل بالهمة ذاتها على المستويات الثقافية والفنية والإعلامية، بما يتناسب مع رغبتها في التأثير الإقليمي الذي يحمل نتائج سياسية تخدم مصالحها الحيوية.
لم تستثمر الحكومة في الرصيد التاريخي الذي منح مصر دورا رائدا في محيطها العربي والأفريقي في حقب سابقة، ولم تستفد من الفراغ الحاصل في الكثير من العواصم العربية التي كانت تمثل منافسا رئيسيا لها، مثل بغداد ودمشق وبيروت، واضمحلال دورها الثقافي، وأهملت الاعتماد على الوسائل التي تمكنها من توسيع نطاق حضورها الناعم وما يحمله من حصيلة متنوعة للدولة وتطلعاتها السياسية.
أسهمت الأزمات الطبيعية والصراعات والحروب الدائرة بالمنطقة في التعويل على سلاح المساعدات والمعونات، فقد هرعت القاهرة في أوقات كثيرة إلى إرسال شحنات من الأدوية والمعدات الطبيعة والمواد الغذائية إلى الدول التي تعاني من نقص حاد، ولعب سلاح الجو المصري دورا مهما في نقل الكثير من المساعدات إلى الدول المنكوبة.
كثفت القاهرة من تصرفاتها في هذا الاتجاه وبدت كأنها تختزل قوتها الناعمة فيه، حيث يتناسب مع توجهات النظام الحاكم بشأن فكرة الدور الإقليمي، وتجاهلت توظيف المفهوم الشائع للقوة الناعمة في الأدبيات السياسية، وكانت مصر من الدول التي أولت له اهتماما في الماضي، وحجزت مكانة متقدمة بما امتلكته من رصيد ثقافي غزير ومتعدد الوجوه، لا تزال إفرازاته تتردد في أركان العالم العربي حتى الآن.
عرّف الأستاذ في جامعة هارفارد جوزيف ناي القوة الناعمة بأنها “القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلاً من الإرغام أو دفع الأموال، وتنشأ من جاذبية ثقافة بلد ما، ومثله السياسية، فعندما تبدو السياسة مشروعة في عيون الآخرين تتسع القوة الناعمة”.
تحاول القاهرة إعادة اكتشاف هذه القوة بما يتواءم مع مقاييس النظام الحاكم الذي اختزلها في مفاهيم أقرب إلى القيم المادية من المعنوية، وهو ما انعكس سلبا على التأثير الثقافي لمصر، وكل ما يحدث من أدوار في هذا السياق يبدو أقرب إلى الكرنفالات التي تخاطب الداخل أكثر من الخارج، على غرار تقديم مجموعة من الأعمال الدرامية خلال شهر رمضان كل عام، والحفاظ على شكل مهرجانات السينما والموسيقى والغناء التي تريد إظهار صورة فنية مؤقتة ولا تعبر عن حالة دائمة.
تحتاج الديمومة إلى توسيع في مجالات الاهتمام، ومنح المبدعين فرصة لتقديم أعمال فنية راقية بلا قيود أو كوابح ودون تسخيرها لأهداف معينة ولا تفيد الدولة المصرية في مسألة القوة الناعمة التي تتطلب مروحة ثقافية واسعة تأخذ في حسبانها محددات السياسة الخارجية وتنفيذ أهدافها من خلال أدوات مبتكرة وغير تقليدية.
تعبر “النوستالجيا” أو حالة الحنين إلى الماضي الظاهرة في الكثير من وسائل الإعلام المصرية عن فقر في القوة الناعمة في الوقت الحاضر، ويشير تكثيف الحديث عن قمم الثقافة والفن والصحافة والاحتفاء بالأموات إلى ندرة الأمثلة الموازية لهم من الأحياء، ما يؤكد غياب المشروع الرسمي الذي أنتج أسماء كبيرة في الماضي، وجعل مصر منارة ثقافية في المنطقة، وأكسبها تأثيرا سياسيا مهما.
قد يجد الكثيرون أسماء مصرية لامعة في مجالات عدة ولها أدوار نوعية وبارزة، لكن التدقيق في غالبيتها يجدها تنحصر في نطاق الاجتهاد الفردي، وفي معظمها بعيدة عن رعاية الجهات الرسمية، فلم تقدم الدولة مشروعا يعزز رغبتها في استثمار القوة الناعمة.
من حصلوا على جوائز ثقافية ومن تفوقوا في الألعاب الرياضية المختلفة، وحتى الأطباء والعلماء الذين قدموا خدمات جليلة للبشرية من المصريين، نتاج جهود شخصية قاموا بها، إذ توافرت لهم البيئة اللازمة للإبداع في الدول التي قدموا إنتاجهم فيها، أو طوروا مواهبهم من دون رعاية مقننة من الدولة، حتى لو استثمرت قفزاتهم.
لم تقدم الدولة المصرية ما يثبت أنها معنية حقا بفكرة القوة الناعمة، مع أن أمامها فرصة ذهبية لتوظيفها في خدمة أهدافها السياسية، فهناك مبدعون يحتاجون إلى رعاية أجهزة الدولة، وهناك الكثير من المجالات التي يمكن العمل فيها لتحسين الصورة الذهنية وكسب مساحة ثقافية تمكن الاستفادة منها في قضايا سياسية، فضلا عن الاعتدال في التوجهات الخارجية ودعمه للمضمون الخفي الذي تحمله القوة الناعمة.
خسرت القاهرة جزءا من معركتها في سد النهضة الإثيوبي، لأنها فقدت بريقها في القارة الأفريقية وأهملت الكثير من دولها سنوات طويلة، ما جعل خطابها السياسي أقل تأثيرا، فبعثات الأزهر في ربوع القارة تقلصت، ودور الكنيسة القبطية التاريخي توارى في أديس أبابا، والحضور الثقافي والإعلامي تلاشى تقريبا، ما ترك الفضاء سانحا أمام ترويج تصورات إثيوبيا المناهضة للمصالح المصرية.
يعتمد نشاط القاهرة الحالي مع دول عديدة على مقومات مادية بحتة، حيث تتوسع في التعاون الاقتصادي وتقديم مساعدات فنية وتنموية، وتعتقد أنها كافية لزيادة النفوذ والتأثير، في محاولة لتغيير مفهوم القوة الناعمة بطريقة تتجاهل القيم التي عرفتها سلفا وقادت إلى التوسع في الاعتماد عليها واعتبرتها واحدة من أدوات السياسة الخارجية.
تعكس هذه المسألة حالة من القطيعة مع الماضي الحافل بنماذج حققت للقاهرة فوائد سياسية مختلفة، ومع الحاضر الذي تتصاعد فيه تأثيرات التكنولوجيا وما تنطوي عليه من روافد ثقافية وفنية وإعلامية، والتي تتطلب المزيد من الاهتمام بها، وإذا أرادت أن يكون لها مكان تحت شمس عالم تتصارع فيه ثقافات متباينة عليها أن تقدم مشروعا وافيا يستفيد من الوفرة في المواهب المصرية.
ليس شرطا أن يقوم هذا المشروع على إطلاق الحريات وتبني معايير الديمقراطية على الطريقة الغربية التي تمثل إزعاجا للبعض، فقد كان تأثير القوة الناعمة في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في أوج مجده والبلاد تعيش حالة قاتمة من القمع السياسي الذي لم يوازه قمع في الإبداع، وهو ما أتاح للقاهرة فائضا من القوة الناعمة.
ربما يكون التباين في الأجواء والقيادات وأنماط التفكير والأهداف وآليات تحقيقها لدى الطبقة الحاكمة، لكن لا تزال فوائد القوة الناعمة لم تختلف كثيرا، فهي بحاجة إلى ضبط للبوصلة السياسية وعزيمة وإرادة وإيمان بما يقدمه الإبداع من مزايا كي يصبح منتجا، وثمة فرصة تنتظرها من خلال مشروع محكم يعيد إحياء دور الثقافة والفن وما يحملانه من تأثيرات متعددة.