إفراغ مؤتمر استقرار ليبيا من أهدافه يعري علاقات الداخل والخارج
الحبيب الأسود
قد يكون أهم ما حققه مؤتمر دعم استقرار ليبيا هو ذلك الحشد الإقليمي والدولي الذي تعرفه طرابلس لأول مرة منذ العام 2010، فالوفود التي حضرت الخميس، وتم إغلاق نصف العاصمة لتأمينها، أعطت انطباعا جيدا، كان رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة يبحث عنه ليدعم به حملته الداخلية لتلميع صورته كزعيم شعبي قادر على كسب ثقة مواطنيه.
كان المؤتمر، مناسبة أخرى يمارس من خلالها المسؤولون العرب خطاب المجاملات ولاسيما في اجتماعات الجامعة التي كانت خلال السنوات الماضية بعيدة عن الملف الليبي، بعد أن سلمت الأمر برمته إلى مجلس الأمن منذ مارس 2011، عندما فتحت أبواب التدخل العسكري الأجنبي في ظل حمّى ما سميت بثورات الربيع العربي. أما الاتحاد الأفريقي فهو يعاني من حالة العرج الدائم، نظرا لفقدانه آليات الضغط لتنفيذ الإجراءات التي يراها مناسبة.
سعت حكومة الدبيبة إلى تقديم دولة الكويت في صدارة المؤتمر، وهو موقف يتصل أساسا برغبتها في إيجاد حل لملف قضية مجموعة الخرافي التي ربحت دعوى قضائية لتضررها من تعطل مشروعات لها في ليبيا منذ العام 2006، وذلك بحصولها على حكم نهائي يقضي بنيلها تعويضا يتضمن فوائد بقيمة 1.3 مليار دولار ورفض كافة طعون الحكومة الليبية.
وفي سبتمبر الماضي، دعا الدبيبة خلال زيارته إلى القاهرة السلطات المصرية لمساعدته على إيجاد حل للأزمة، ولكن حركة وُصفت بالصبيانية أدت إلى تجميد الدور المصري، فقد قام الوفد الليبي بتسريب تسجيل صوتي للحوار الذي دار بين الدبيبة ورئيس وزراء مصر مصطفى مدبولي في سابقة للدوس على ضوابط البروتوكول الرسمي والأعراف الدبلوماسية بين الدول.
كشف مؤتمر دعم استقرار ليبيا عن الخلافات الحادة بين المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية، فقد اختطف الدبيبة من محمد يونس المنفّي أحقيته بالإشراف على الافتتاح، وهذا الأمر كان منتظرا، ومنسجما مع مجريات الوضع العام في غرب البلاد، فرئيس الحكومة يبحث بكل قوة عن غطاء إقليمي ودولي لتنفيذ برنامجه السياسي غير القابل للتحديد في صيغته المؤقتة والتي يفترض أن تنتهي بحلول الموعد المقرر لتنظيم الانتخابات في أواخر ديسمبر.
كانت تلك الحركة بمثابة نسخة ثانية مما حدث في مؤتمر برلين 2 في الثالث والعشرين من يونيو الماضي، عندما اتجه الدبيبة إلى العاصمة الألمانية للحضور تاركا المنفي في التسلل بروما، وسحب البساط من تحت قدمي وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش التي كانت تستعد آنذاك لتقديم مشروع دعم الاستقرار في بلادها.
وفق وثيقة الصلاحيات المنبثقة عن ملتقى الحوار الليبي في فبراير الماضي يتولى المجلس الرئاسي مجتمعا تمثيل الدولة بصفة بروتوكولية في علاقاتها الخارجية، لكن حتى هذا الامتياز استولى عليه الدبيبة بشكل واضح، وهو ما جعل المنفي يتغيب عن قاعة مؤتمر الاستقرار، ويكتفي باجتماعات هامشية من وراء الستار، وهو ما يحمل على كاهله عبء الرسائل القوية التي تلقاها خلال زيارته الأخيرة إلى المنطقة الشرقية والتي تؤكد عمق الخلافات بين إقليم برقة الذي يتحدر منه وحكومة الوحدة الوطنية في طرابلس.
علينا أن نتذكر أن المجلس الرئاسي كان من خلال رئيسه ونائبيه ومتحدثته الرسمية، قد أعلن عن مبادرة سيتم تقديمها أمام مؤتمر دعم الاستقرار. محمد المنفي تحدث عن ذلك صراحة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 سبتمبر، وقال في مناسبات أخرى أنه سيطلب من الشخصيات الجدلية عدم الترشح للانتخابات لضمان تنظيمها في إطار من التوافق والاعتراف بنتائجها من جميع الأطراف. نائبه موسى الكوني ذهب إلى إمكانية طرح فكرة بديلة تتمثل في إصدار مرسوم رئاسي بقاعدة دستورية. الناطقة باسم المجلس نجوى وهيبة أوضحت في أوائل أكتوبر أن المبادرة التي ستعرض على مؤتمر الاستقرار تنبني على فكرة تنص على جمع الأطراف السياسية المعنية بإنقاذ الانتخابات، والمعنية بحسم الإطار القانوني للانتخابات للجلوس معًا ومناقشة كل التحديات التي يمكن أن تعيق إجراء الانتخابات في موعدها، وإيجاد الحلول. لم يحدث شيء من ذلك نهائيا.
تم تغييب رئيس المفوضية العليا المستقلة للانتخابات عماد السايح عن المؤتمر فاكتفى بعقد بعض اللقاءات في مطار معيتيقة مع الوفود المغادرة، رغم أنه كان من المفترض أن يحتل ملف الاستحقاق الانتخابي صدارة الاهتمام في قاعة الاجتماعات، وبخاصة إذا عرفنا أن شهرين فقط باتا يفصلان البلاد عن الموعد المحدد للرابع والعشرين من ديسمبر.
آخر المؤشرات على تواصل الأزمة تقدم رئيس مجلس الدولة الاستشاري خالد المشري بصحيفة دعوى إلى الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا ضد رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ونائبه فوزي النويري والممثل القانوني لمفوضية الانتخابات ورئيسها عماد السايح، تتعلق بالطعن الدستوري في قانون انتخاب الرئيس المصدّق عليه رسميا في التاسع من سبتمبر الماضي.
وفي حال انعقاد الدائرة فإن كل المؤشرات ترجح قبول الطعن والحكم بلا دستورية القانون. المشكلة الأكبر أن لا شيء تم في ليبيا خلال السنوات الماضية يتوافق مع القانون الدستوري بما في ذلك الاتفاق السياسي ذاته.
قبل ساعات من مؤتمر دعم استقرار ليبيا، تم التخلي عن مسودة البيان الرسمي، وتعويضها ببيان مختصر، تم التركيز فيه على تسع نقاط، أغلبها كان من البديهيات التي أصبحت تفرض نفسها على أغلب البيانات ومنها الدعوة إلى “الالتزام الدائم والثابت والقوي لحكومة الوحدة الوطنية بسيادة ليبيا واستقلالها وسلامتها الإقليمية ووحدتها الوطنية، ورفضها القاطع للتدخلات الأجنبية في الشؤون الليبية، وإدانتها لمحاولات خرق حظر السلاح وإثارة الفوضى في ليبيا” و”التزام الحكومة التام بتنفيذ قرارات مجلس الأمن بشأن ليبيا بدءًا من القرار 1970 والقرارات اللاحقة، ولاسيما قراري مجلـس الأمـن 2570 و2571، ومخرجات مؤتمري برلين (1) و(2)، وخارطة الطريق الصادرة عن ملتقى الحوار السياسي الليبي، ودعوة الجميع لتنفيذ هذه القرارات” و”ترحيب الحكومة الليبية بعودة سفارات الدول للعمل من داخل العاصمة الليبية طرابلس، ودعوة باقي الدول لعودة عمل سفارتها من داخل العاصمة طرابلس” والإشادة بالدور المحوري للأمم المتحدة في دعم الاستقرار في ليبيا، وكذلك جهود كل من الاتحاد الأفريقي ولجنته رفيعة المستوى لرؤساء دول وحكومات الاتحاد الأفريقي المعنية بليبيا، واللجنة الرباعية والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية ودول الجوار الليبي في هذا الإطار”.
النقطة الوحيدة التي يمكن أن تثير الكثير من الجدل حول إدراجها بشكل غامض، هي تلك التي تتحدث عن “أهمية اتخاذ التدابير اللازمة والاستحقاقات لبناء الثقة، وخلق بيئة مناسبة من أجل عقد الانتخابات الوطنية بشكل نزيه وشفاف وجامع في 24 ديسمبر 2021” ولكن دون قرار إلزامي، لأن الأمر يتعلق بأهمية وليس بحتمية اتخاذ التدابير، كما أن خلق بيئة مناسبة من أجل عقد الانتخابات الوطنية بشكل نزيه وشفاف وجامع لتنظيم الانتخابات في موعدها، يدخل في باب التمنيات ولاسيما قبل شهرين فقط من الرابع والعشرين من ديسمبر.
من اللافت أن البيان، لم يتحدث بشكل واضح ومعلن ومحدد عن إجلاء المقاتلين الأجانب أو حل الميليشيات أو توحيد المؤسسة العسكرية أو تأمين الجنوب أو الإفراج عن المحتجزين أو إعادة المهجرين في الداخل والخارج أو توحيد مصرف ليبيا المركزي، وكلها نقاط ضرورية لتحقيق الاستقرار الفعلي، كما أنه لم يتطرق إلى القاعدة الدستورية والقانونين الصادرين عن مجلس النواب، ولا عن دعم مباشر لمفوضية الانتخابات، ولم يدعُ إلى حضور مراقبين دوليين للاستحقاق.
خلاصة المؤتمر، أنه كان مباركة إقليمية ودولية لاستمرار الوضع على حاله، وأن الأمم المتحدة لا تزال تغرد خارج الواقع من خلال بعثتها المستمرة في صرف الوقائع من داخل صندوق الوهم، كما أن تركيا تبدو إلى حد الآن هي المتحكمة الفعلية في المشهد العام بطرابلس، وهي التي استطاعت أن تحقق بضغوطها على الحكومة والدائرين في فلكها أغلب أهدافها، ولاسيما تجميد الوضع على الأرض إلى ما لانهاية، والإبقاء على خادمي مصالحها في مواقع القرار إلى أجل غير مسمى.
الآن، ستتجه الأنظار إلى مؤتمر باريس في الأسبوع الثاني من نوفمبر القادم، وبعده قد يأتي مؤتمر لندن في ديسمبر، وقد تضطر ألمانيا إلى الدعوة إلى مؤتمر برلين 3 يناير، ولكن المؤكد أن هناك خللا ما في مواقف المجتمع الدولي يستفيد منه الراغبون في التمديد لسلطتهم بطرابلس ولاسيما رئيس الحكومة الذي يتحرك على جميع الصعد وكأنه سيحكم أبدا، ومن ورائه تركيا وطابورها الخامس في غرب ليبيا.