إفشال الدول
من أغرب التفسيرات التي لاحظتها حول محاولة الانقلاب الفاشلة التي قامت بها مجموعة فاغنر وقائدها يفغيني بريغوجين هو أن كل ما حدث كان “مؤامرة” تم ترتيبها بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وصديقه قائد الميليشيا الخاصة كي يسهل على الرئيس “التخلص” من بعض قيادات جيشه التي لا يرضى عن أدائها بالحرب في أوكرانيا.
طبعا في الظروف الاستثنائية تكثر الروايات والتحليلات وأيضا التلفيقات والتضليل المعلوماتي. ويصعب معرفة الحقيقة التي تصبح أول ضحية في الصراعات المماثلة. لكن هناك بعض الشواهد على خلاف قائد ميليشيا فاغنر مع قيادات الجيش، وبدا قبل فترة أن الرئيس بوتين يقف في صف قيادات جيشه ولا يقبل بانتقادات بريغوجين لهم. لكن قرار إشراك ميليشيا خاصة من المرتزقة في الحرب بأوكرانيا، مع قوات الجيش النظامي الروسي، كان في الأول والأخير قرار الكرملين. ومن تقارير الإعلام الغربي عن إنجازات ميليشيات المرتزقة بأفضل بكثير من القوات الروسية كان واضحا أن أزمة تختمر.
سواء كان بريغوجين بمحاولة انقلابه الفاشلة ينفذ مؤامرة، مع الرئيس الروسي أو مع مخابرات غربية، أم أنه كان يطمح لأن يتولى قيادة الجيش النظامي فزحف بميليشياته داخل روسيا أو أنه بالفعل كان يسعى لانقلاب كامل على الكرملين بما فيه صديقه بوتين ففي النهاية لا يمكن إغفال الدرس المستفاد من تلك المحاولة. ربما تمكنت القيادة الروسية من وقف التمرد، وأبعدت بريغوجين وبعض مقاتليه إلى بيلاروسيا الحليفة، لكنها لم تسد الشرخ الذي أحدثته المحاولة. ليس فقط في الداخل الروسي، ولكن أيضا تداعيات أي اضطراب في روسيا على العالم أجمع.
الدرس الأول قديم ومعروف وإن كانت أحداث روسيا أعادت التأكيد عليه وهو أنه نتيجة الاختلاف الجذري بين الميليشيات والجيوش النظامية وأنه حين يتعلق الأمر بمصالح الدولة لا يمكن الاعتماد على الميليشيات مهما كانت كفاءتها. والفارق بين الجيش والميليشيا أمر معروف، وسبق وكتبنا عنه هنا في سياق بروز جماعات مثل الإخوان المسلمين والميليشيات الإرهابية التي خرجت من رحمها قبل سنوات. وأن مشكلة تلك الجماعات وميليشياتها تكون في الأول تجاه الجيش النظامي للدولة. ليس فقط لأن النيل من المؤسسة العسكرية لأي بلد يعني مقدمة تحولها إلى “دولة فاشلة” ولكن لأن هناك عداء أصيلا بين فكرة الجيش الوطني والجماعات المسلحة، سواء كانت عقائدية أو مرتزقة تعمل من أجل المال فقط. وهذا حديث له مجال آخر.
أما الدرس المتعلق بالحدث الروسي، فيعود إلى أن الحلول غير التقليدية للمشكلات ربما لا تأتي أيضا بالنتائج المرجوة. فقد كان واضحا منذ بداية حرب أوكرانيا مطلع العام الماضي أن القيادة في الكرملين تريد “عملية عسكرية خاصة” سريعة وحاسمة تسيطر على مناطق متاخمة لروسيا أغلبية سكانها من العرقية الروسية. لكن الأمر لم يتم كما هو مخطط له، وطالت الحرب وامتدت ليس فقط بسبب وقوف أميركا والغرب بجانب أوكرانيا ولكن ربما أيضا بسبب ضعف المهارات والكفاءة في بعض جوانب العسكرية الروسية اضافة إلى أن تسليحها ليس على أعلى مستوى من الحداثة والتطور أيضا. قد يكون ذلك ما دفع الكرملين للاستعانة بميليشيات فاغنر. لكن في النهاية هؤلاء المقاتلون المرتزقة يعملون من أجل المال، وليس لديهم تلك العقيدة العسكرية التي تبنى عليها الجيوش النظامية من حماية الوطن وضمان سلامة أمنه الداخلي وحدوده. لذا، حين أراد قائد الميليشيا القيام بمحاولته الفاشلة كان ولاء مقاتليه له وليس للوطن أو غيره، فهو الذي يتعاقد باسمهم ويأتي لهم بالأموال التي يقاتلون من أجلها فحسب.
صحيح أن ما جرى في روسيا يختلف عما يحدث في السودان، لكن الجذر النهائي للمشكلة واحد تقريبا. فقوات الدعم السريع التي حاول الرئيس السوداني السابق عمر البشير دمجها في الجيش النظامي لم يكن ممكنا أن تتخلى عن طبيعتها كميليشيات عرفت في إقليم دارفور باسم “الجنجويد”. ورغم تعاون قائد تلك الميليشيات مع قيادة الجيش للإطاحة بنظام البشير وداعميه من جماعة الإخوان، إلا أن طموح السلطة أظهر الميليشيات على حقيقتها بسرعة ليندلع صراع مسلح منذ أسابيع طويلة يوشك أن يحول السودان إلى “دولة فاشلة”. وبغض النظر عن التفاصيل والتحالفات والمصالح، ففي النهاية هناك جيش نظامي يمثل الدولة وميليشيات ولاؤها الأول لقائدها قبل الوطن وحمايته وسلامة أراضيه. هناك بالطبع نماذج أقل وضوحا، أغلبها للأسف في منطقتنا من سوريا إلى ليبيا إلى غيرها. لكن القاسم المشترك الأعظم في كل الحالات هو أن ضعف المؤسسة العسكرية، لصالح جماعات أو ميليشيات أو قوات خاصة غير حكومية، هو بداية فشل الدولة.
لا شك أن من مصلحة الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية أن تتحول روسيا إلى دولة فاشلة، وربما حتى يستهدفون فعل الشيء نفسه مع الصين. ليس بالضرورة مثل أفغانستان وغيرها، ولكن على الأقل وقف نموها واحتمالات تطورها ووقوعها في براثن صراعات داخلية تستنزفها حتى تكاد تنتهي كدولة. إنما المشكلة أن إفشال الدول لا تقتصر تبعاته على البلد المعني وإنما تطال محيطه بل وربما – مثل حالة روسيا – تضر بالعالم أجمع. ليس فقط بسبب كون روسيا أحد أكبر منتجي ومصدري الطاقة والحبوب والسماد في العالم، ولكن لأن هناك كثيرا من العلاقات وتشابكات المصالح مع دول كثيرة ستنهار بتحول روسيا إلى دولة فاشلة. قد تكون الصين وإيران استطاعتا حماية البلاد من تحول أفغانستان إلى دولة فاشلة نتيجة الغزو والاحتلال الأميركي والغربي، لكن باكستان مثلا تضررت بشدة وما زالت. ولك أن تتخيل ما يمكن أن يحدث بإفشال بلد كروسيا أو الصين!