الإخوان في تونس.. سلوك مكشوف في واقع استثنائي
حكيم مرزوقي
الإخوان المسلمون محفل هرمي شديد التماسك، ويخفي تنظيما سريا عالميا يكاد يستحيل اختراقه.. فلماذا انشقوا في تونس دون غيرها؟
سؤال مشروع ومتوقع، يطرحه كل من له أبسط دراية بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وآليات نشاطاته وارتباطات فروعه الأخطبوطية المتشعبة.
يأتي هذا السؤال على خلفية توقيع أكثر من مئة عضو في حزب حركة النهضة في تونس على بيان للرأي العام نشر السبت، ويتضمن استقالتهم من الحزب بسبب “تعطل الإصلاحات الداخلية” في أبرز أزمة يواجهها الحزب منذ مباشرة نشاطه السياسي في العلن بعد ثورة 2011 وتصدره المشهد السياسي بعد عقود من العمل السري.
المستقيلون ليسوا مجرد أعضاء عاديين بل قياديون شبان وكهول من الصف الأول أي الفاعلون والمؤثرون في الحركة ثم إنهم من أولئك الذين “أقسموا بالدم” على الولاء المطلق لـ”أولي الأمر”، وفق البروتوكولات المعروفة – وغير المجهولة – للتنظيم العالمي.
الاعتراضات بدورها لم تكن اعتيادية من صنف تلك الانتقادات التي تسمح بها الأنظمة الداخلية للأحزاب مهما كان انغلاقها، بل هي في غاية الحدة والغضب، ووصلت إلى حد الطعن والتشكيك في خيارات القيادة واعتبارها خاطئة من أساسها، جملة وتفصيلا.
هذا الانهيار المفاجئ شكّل أكثر من مجرّد انتكاسة سياسية جاءت على إثر قرارات الرئيس التونسي قيس سعيد بتجميد البرلمان وحل الحكومة، ومن بعدها تعزيز صلاحياته في اتخاذ إجراءات استثنائية والاستفتاء على تغيير الدستور. لقد كشفت هذه الاستقالات عجز حركة النهضة حتى على مجاراة غيرها من الأحزاب والمنظمات التي تحفظت على قرارات سعيد، إذ أصبحت في منطقة معزولة سياسيا وجماهيريا كما يشير بيان الاستقالة المدوي “الخيارات السياسية الخاطئة لقيادة حركة النهضة أدت إلى عزلتها وعدم نجاحها بالانخراط الفاعل في أي جبهة مشتركة لمقاومة الخطر الداهم الذي تمثله قرارات الثاني والعشرين من سبتمبر”.
ما حدث في صفوف حركة النهضة هو بمثابة الزلزال المدوي الذي من شأنه أن يهز الكيان بأسره، وليس مجرد تململ داخلي أو محاولة لضخ دماء جديدة في جسد حركة مشلولة كما يحدث في أي حزب سياسي.
الاستقالات جاءت أكثر مما يتوقعها خصوم النهضة أنفسهم، وطالت حتى المكلف بإدارة أزمتها السياسية محمد القوماني في مشهد وصفه محللون بـ”الكاريكاتيري”.
الأزمة التي حلت بحركة النهضة هي إذن هيكلية، ولا يمكن وصفها إلا بالانهيار الكامل الذي يصعب الترميم أو البناء من بعده، مما يعقد مستقبلها السياسي: هل تؤول إلى حالة من التشظي، وتستحيل النهضة إلى “نهضات” يصعب نهوضها من جديد كمظلة يستجير تحتها الإسلاميون أم تعود إلى حجمها الذي كانت عليه في سبعينات القرن الماضي؟
الواقع أن هذا التصدع التنظيمي لم يكن مفاجئا لمن راقب وتابع مشاكل الحركة منذ مؤتمرها الأخير، والخلافات التي تسبب فيها زعيم الحركة راشد الغنوشي الذي بدا مترنحا أمام ضربات جاءته من كل حدب وصوب، في الحزب وداخل البرلمان، بالإضافة إلى اهتزاز صورته وتشوهها بعد خمسين عاما من العمل السياسي، اختار على إثرها أن يخرج من الباب الصغير ضاربا بعرض الحائط نصيحة الخصم والحليف على حد سواء.
الأمر الآخر هو أن هذا التراجع الذي بلغ درجة التقهقر والانهيار لا يخص “النهضة” في تونس وحدها بل جميع أحزاب وحركات الإسلام السياسي في المنطقة والعالم، فمنذ أيام، وبعد 10 سنوات من قيادته الائتلاف الحكومي، أعلنت الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية في المغرب استقالة جميع أعضائها وعلى رأسهم الأمين العام سعدالدين العثماني بعد هزيمة انتخابية قاسية بسبب التصويت العقابي والسياق الإقليمي.
ومنذ سقوط حكم الإخوان في مصر ومحاصرة نشاطاتهم في دول خليجية، بدأت كياناتهم تتهاوى الواحد بعد الآخر، مرورا بالسودان الذي ظل حليفاً لحماس لفترة طويلة في عهد الرئيس عمر البشير، ووصولا إلى ليبيا التي ما زال يناور فيها المجلس الأعلى للدولة الذي يسيطر عليه الإخوان، وبتعليمات أردوغانية داعيا إلى تأجل الانتخابات الرئاسية استشعارا للخطر الداهم.
قارب الإخوان يغرق برمته، وقراصنته يهربون في اتجاهات عديدة وبتبريرات واهية ومتنوعة كالحديث عن مؤامرات خارجية أو اللجوء إلى مراجعات تعيد تغليف السلوك التكفيري والبحث عن تحالفات غير مقنعة وضخ المزيد من المال السياسي أو الاستنجاد بمنظمات حقوقية عالمية عبر تكرار إسطوانة المظلومية التاريخية.
الآن وبسقوط المشروع السياسي للإخوان في الحكم، يمكن القول إن نظرية “أستاذية العالم” التي صاغها مؤسس التنظيم حسن البنا عام 1928 تتهاوى، وليس بإمكان العالم أن يستوعب مثل هذه الأكاذيب أكثر من مئة عام. إنه العمر الأقصى لأي نظرية تريد أن تحكم العالم، فما بالك بعقيدة مبنية على السيطرة والإقصاء والتكفير، وتاريخها حافل بالاغتيالات.
الشيوعية التي استقت مشروعيتها من أهم النظريات الاقتصادية في القرن التاسع عشر، واستلهمت جدلية المفكر الألماني الكبير هيغل، وحركت الشعوب في مختلف قارات العالم، ولّت إلى غير رجعة بعد سقوط جدار برلين، فما الذي تتأمله البشرية من جماعة بنوا شرعيتهم على التجريم والتحريم والسيطرة على عقول البسطاء؟
الحلول المتوقعة التي يمكن أن تلجأ إليها حركة النهضة في تونس بعد هزيمتها المدوية ليست كثيرة، ولا مجدية أو محمودة العواقب، ذلك أنها فقدت “مصداقيتها” على أرض الواقع وخسرت الكثير ممن كانوا يقولون عند أول انتخابات إنها “تخاف ربي” وأعطوها أصواتهم فبادرتهم بالنكران ثم عادت تتملقهم بالوعود وكأنها تشتري أصواتا بدل تلك التي خسرتها.. والنتيجة هي المزيد من الفشل، لكن تعويلها كان دائما على المسألة الإيمانية لدى شعب طيب لكنه ليس مغفلا.
أهم هذه الحلول المتوقعة هو أن يشكل المنشقون من حركة النهضة حزبا سياسيا يتودد للرئيس قيس سعيد الذي لا يمتلك حزبا، ويحاول هؤلاء العمل تحت يافطة مموهة، ولكن هل يؤتمن جانبهم بعد الذي وقع؟ فليس كلهم من “التوابين”، ثم من أدراهم أن التونسيين ما زالوا يتمسكون بالأحزاب.. بدليل وقوفهم غير المشروط، فرادى وجماعات، نخبا وشعبيين، إلى جانب رجل بلا حزب؟
انشقت قيادات الإخوان في تونس تنظيميا قبل أن تنهزم انتخابيا لأن ما كانت تعتقد أنه صحيح تبين لها أنه باطل، إذ لا قيمة لنظرية مع استحالة تطبيقها، خصوصا في بلد مثل تونس يناقش فيه العاطلون عن العمل أحدث النظريات الاقتصادية وآخر الإصدارات الثقافية.