الإصرار على الكارثة في غزّة خذلان للاعتدال العربي
أيّاً تكن الذرائع والأسباب، فلا يجوز، إنسانياً وأخلاقياً وحتى قانونياً، منع المساعدات الأساسية لشعب واقع في فخّ حرب انتفت فيها كل ضوابط العقل. لكن هذا ما يواجهه الفلسطينيون في غزّة منذ قررت ثماني عشرة دولة تعليق تمويلها لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ما يحجب عنها نحو ثلثي ميزانيتها السنوية.
واتُّخذ هذا القرار بناءً على اتهامات إسرائيلية لاثني عشر موظفاً في الوكالة تزعم مشاركتهم في هجوم حركة «حماس» على «غلاف غزّة» الإسرائيلي في 7 أكتوبر 2023. يعمل في «الأونروا» ثلاثة عشر ألف فلسطيني، منهم الطبيب والمسعف والمدرّس وغير ذلك، يُضاف إليهم نحو عشرين ألفاً يؤمّنون كافة الخدمات لنحو خمسة ملايين لاجئ موزّعين بين الضفة الغربية والأردن ولبنان وسوريا. لذا فإن اتهام بضعة أفراد لمعاقبة شعب كامل يستخفّ بالقانون الإنساني الدولي وينسف قواعدَ النسبة والتناسب، كما ينمّ عن تهوّر سياسي فادح. الأكيد أن الوضع الذي تشكّل عبر «الأونروا» ووظيفتها، منذ إنشائها قبل خمسة وسبعين عاماً واستمر حتى الآن، لم يكن مقبولاً ولم يكن له أن يطول، لكن المسؤولية لا تقع على الفلسطينيين أو على الوكالة الأممية نفسها، بل على المجتمع الدولي ودوله الكبرى الفاعلة، إذ تركا القضية الفلسطينية للوقت كي يحلّها، وتهرَّبَا من واجب إنصاف الشعب وحقوقه.
بل إن هذا الإهمال انعكس بأشكالٍ شتى على المحيط العربي، حكوماتٍ وشعوباً، ليغدو حلّ هذه القضية عنواناً رئيسياً دائماً لاستحقاق الاستقرار المؤجّل في المنطقة. لم تأتِ الحروب بحلول، وإنما بقرارات دولية لم يُنفّذ أي منها، ولم يأتِ الاحتلال الإسرائيلي الكامل لأراضي فلسطين بأي حلّ، بل زيّن للمحتلّ إمكان تحقيق مطامعه، ولا جاءت «اتفاقات أوسلو» بسلام رغم الآمال الكبيرة التي رسمتها، وبالطبع لم يشكّل التلاعب الإسرائيلي الأميركي بتلك الاتفاقات، وصولاً إلى ما سمّيت «صفقة القرن»، بديلاً صالحاً لإحقاق الحقوق.
وفي الأثناء، لم تتوفّر للفلسطينيين دولة، ولم يُمكَّنوا مِن بلورة اقتصاد خاصٍّ بهم، ولم يتخلّصوا من التحكّم بمرافقهم وخدماتهم، كي يبادروا هم وليس غيرهم إلى المطالبة بانتفاء الحاجة إلى «الأونروا»، ليصبح إنهاء عملها أمراً معقولاً يمكن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة أن يبتّاه بسهولة.
أما أن يُستغلّ تدميرُ أكثر من سبعين في المئة من غزّة واقتلاعُ ثمانين في المئة من سكانها من منازلهم والسعيُ إلى تهجيرهم قسراً من أرضهم، وصولاً إلى تجريم «الأونروا» والمطالبة بوقف مساعدتها للسكان.. فكل ذلك لم يزد المسألة تعقيداً فحسب، بل أضاف إلى مشاكل دول المنطقة التي لم تشأ «توطين» اللاجئين الموجودين لديها ويُراد الآن منها (أو من سواها) أن تستقبل لاجئين جدداً.
لم يكن هذا هدف دول «الاعتدال العربي» عندما تخلّت عن نهج الحروب وتبنّت «السلام خياراً استراتيجياً» ثم طرحت «مبادرة السلام العربية» كخريطة طريق إلى السلام. كل ذلك لم يعنِ فقط أن الخداع والخذلان لا يصنعان سلاماً واستقراراً دائمين، بل يؤكّد أن حرمان شعب من الغذاء والماء والدواء والمأوى ينحفر في الأرض الفلسطينية وفي ذاكرة المنطقة وتاريخها.. ومستقبلها.
في اللقاء الوزاري التشاوري في الرياض أخيراً، جاءت المطالبة العربية بإنهاء الحرب ووقف فوري وتامٍ لإطلاق النار، وضمان حماية المدنيين وفقاً للقانون الإنساني الدولي، ورفع القيود عن دخول المساعدات الإنسانية (بما في ذلك دعم «الأونروا»)، وإلى «خطوات لا رجعة فيها لتنفيذ حلّ الدولتين»، بمثابة خريطة طريق جديدة لوقف هذا الاندفاع المحموم إلى كارثة لا يمكن حصر تداعياتها. أما العكس فيخذل «الاعتدال العربي» لمصلحة التطرّف بكل أشكاله.