الإضرابات والتدهور الاقتصادي يشيع حالة البؤس في بريطانيا
الحكومة فشلت في جميع المحادثات التي خاضتها مع النقابات العمالية
تسببت سلسلة من الإضرابات في إشاعة أجواء من البؤس في بريطانيا قبل عيد الميلاد مع تهديد عمال السكك الحديد وشرطة مراقبة الجوازات أيضا بإفساد عطلة الأعياد في ظل رفض الحكومة قبول المطالب المتعلقة بالأجور.
وتعتبر بريطانيا من أكثر البلدان الأوروبية التي تضررت اقتصادياً جراء الحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية المفروضة على روسيا، فيما بلغ مستوى الإضرابات في بريطانيا خلال شهر ديسمبر الجاري “مستوى قياسياً”، إذ شهد كل يوم تقريباً من هذا الشهر وقفات احتجاجية وتعطيلاً للعمل، وسط مطالب برفع الأجور التي تآكلت قيمتها المنخفضة أصلاً، فيما تبقى الحكومة مترددة في رفع الأجور خوفاً من استمرار ارتفاع التضخم.
وفشلت الحكومة حتى الآن في جميع المحادثات التي خاضتها مع الاتحادات والنقابات العمالية، لمنع الإضرابات أو التخفيف من حدتها. وعندما تقطّعت بها السبل في بعض القطاعات، استعانت بالجيش ليحل محل الموظفين المضربين عن العمل، ولكن المؤسسة العسكرية لم توفّق في المهمة.
ولا تنحصر تداعيات الإضرابات في حصر تنقلات المواطنين، ولكنها تشمل “ضربات قاسية” للاقتصاد المرهق أصلاً، خصوصاً وأن الكثير من الشركات والمصانع والمتاجر كانت تعول على شهر ديسمبر لتعزيز أرباحها، من خلال مبيعات وخدمات عيدي الميلاد ورأس السنة، إضافة إلى فعاليات عديدة اعتادت أسواق البلاد أن تزدهر فيها خلال الشهر الأخير من السنة.
العقوبات الغربية على روسيا
وتطال الإضرابات 6 قطاعات رئيسية في البلاد، هي النقل والتعليم والصحة والبريد والطاقة والخدمات المدنية، ويعمل في كل قطاع آلاف الموظفين.
وبحسب مكتب الإحصاء الوطني، فإن الأجور التي يطالب العمال بزيادتها قد ارتفعت بشكل عام بنسبة 6.1% خلال العام الحالي، ولكن إذا أخذنا التضخم بعين الاعتبار، نجد أن الأجور المنتظمة تراجعت بنسبة 2.7%.
ويدفع ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً بسبب العقوبات الغربية على روسيا معدل التضخم إلى ذروته في المملكة المتحدة، مقترباً من 11%، مما تسبب في أزمة حادة انعكست على كلفة المعيشة.
وبسبب تراجع قيمة الأجور، قرر الحكومة مساعدة المواطنين في تحمل فواتير الطاقة، وهو ما أدى إلى ارتفاع حجم اقتراضها في نوفمبر الماضي إلى 22 مليار جنيه استرليني، مقارنة بنحو 9 مليارات في الفترة ذاتها من العام الماضي، وفق مكتب الإحصاء.
وبالنسبة للعاملين في قطاع النقل، وللممرضين والموظفين في المستشفيات والعيادات الطبية، والمعلمين وموظفي الخدمة المدنية وغيرهم، لا يعتبر الدعم الحكومي في فواتير الطاقة أمراً كافياً، ويدعون إلى زيادة أجورهم بنسب تواكب ارتفاع معدلات التضخم.
ولكن هل يمكن للحكومة زيادة الأجور بينما تمارس التقشف في ميزانيتها، حتى أنها قررت تقليص الإنفاق في عدد من الوزارات والمؤسسات الحكومية خلال العام المقبل؟
سوناك لا يمتلك خطة لإنهاء الإضرابات
وأمام المساءلة البرلمانية، يقول رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك إنه متفهم لمطالب العمال بزيادة الأجور، ولكن أولوية الحكومة اليوم تتمثل في “خفض التضخم”، الذي يقلل من قيمة الرواتب والعملة.
وشدد سوناك على أن “استمرار التضخم بالصعود لن يخدم أحداً، ولن يجعل أي زيادة منتظرة في الأجور ذات جدوى”.
وذكرت صحيفة “فايننشيال تايمز” أن سوناك ربما لا يمتلك خطة لإنهاء الإضرابات، على غرار ما فعلته رئيسة الوزراء مارجريت تاتشر لاحتواء إضرابات عمال المناجم بين عامي 1984 و1985. إذ أن تاتشر كانت مرنة في تلبية مطالب المضربين، ورفضت أخرى، ولكن حكومة سوناك تعامل كل الاحتجاجات بالطريقة واللغة ذاتها.
كما أن تاتشر راهنت على عدم قدرة عمال القطاع على الاستمرار في إضرابهم طويلاً، بسبب عجز الاتحاد عن توحيد العمال من جهة، وتوقيت الإضرابات من جهة ثانية.
ويرى الكاتب في صحيفة “تايمز” مايكل بينيون، أنه يصعب على حكومة سوناك القبول بزيادة بزيادة الأجور في أي قطاع كان خلال الوقت الراهن، لأن أي زيادة في الأجور، وخصوصاً بالنسب التي تطالب بها النقابات والاتحادات، ستؤدي إلى ارتفاع معدل التضخم أكثر فأكثر، وهذا يتعارض مع الإجراءات والسياسات التي تمارسها الحكومة من أجل احتواء تداعيات التضخم المرتفع.
ويوضح بينيون أن الحكومة اليوم “ملزمة بالتعامل مع إضرابات القطاع الصحي بشكل أساسي، فإضراب الممرضين وسائقي سيارات الإسعاف يهدد صحة البريطانيين، وليس حركتهم اليومية”.
ويتابع قائلاً: “كما أن أجور هؤلاء قليلة فعلاً، وقد تراجعت قيمتها خلال السنوات الماضية”، مشيراً إلى أن الحكومة “لن تقبل بزيادة الرواتب بنسبة 19% كما تطالب نقابات الصحة، ولكن قد تنتهي النقاشات لحلول وسطية. أما بقية القطاعات فلن تكون الحكومة مرنة في التفاوض معهم”.
الحكومة تستعين بالجيش
واستعانت الحكومة البريطانية بنحو 1200 عنصر من الجيش للعمل مكان سائقي سيارات الإسعاف وقوات حرس الحدود، الذين أعلنوا إضراباً خلال يومين متفرقين في الثلث الأخير من شهر ديسمبر الجاري.
وفي ما تتهم الحكومة النقابات الصحية باتخاذ قرارات للإضرار بصحة البريطانيين، تقول النقابات إنها اتخذت التدابير اللازمة لضمان الاستجابة لحالات الطوارئ المصنفة من الدرجة الأولى، وأحياناً من الدرجة الثانية.
وقال وزير الصحة ستيف باركلي، إن معظم موظفي سيارات الإسعاف حصلوا على زيادة في الأجور بنسبة 4% على الأقل، مما رفع متوسط دخلهم السنوي إلى 47 ألف جنيه إسترليني، مضيفاً أن أي زيادة أخرى في الأجور تعني أخذ أموال من خدمات الخطوط الأمامية.
أما بالنسبة للممرضين والممرضات فيوضح الوزير، أن البلاد تمر بوقت عصيب على الجميع، والحكومة لا تستطيع أن تلبي مطالب “الكلية الملكية للتمريض” بزيادة أجور هذه الفئة بنسبة 19.2%.
واستناداً إلى تقديرات مختصة، انخفض مستى “الأجر الحقيقي” (القوة الشرائية للنقد بحساب التضخم) للعاملين في مهنة التمريض بنسبة 20% منذ عام 2010.
ويبلغ الأجر السنوي للمبتدئين في هذا المجال نحو 27 ألف جنيه استرليني. أما هيئة الخدمات الصحية فتقول إن معدل الشغور في مجال التمريض يصل إلى 10% من وظائف القطاع الصحي، أي أن هناك 38 ألفاً و972 وظيفة شاغرة، رغم أن أرقام الهيئة تشير إلى أن 45 ألف ممرض و34 ألف طبيب إضافي انضموا إلى مستشفيات الهيئة وعياداتها منذ عام 2010.
انخفاض متوسط “الأجر الحقيقي”
ويرى وزير النقل البريطاني مارك هاربر أن رواتب القطاع العام في البلاد “لن تكون قادرة على مواكبة التضخم المرتفع”.
وأوضح هاربر في حديث مع “هيئة الإذاعة البريطانية” أن الحكومة “تريد أن تمنح جميع العاملين في القطاع العام الذين يعملون بجد، زيادات لائقة في الأجور، لكن لا يمكن أن تتجاوز الزيادات في الأجور معدل التضخم، فليس هناك أموال كافية لتوفير ذلك، ولم يحدث هذا حتى في القطاع الخاص”.
في مقابل تصريحات الوزير، ذكرت “فايننشيال تايمز” أنه منذ وصول حزب المحافظين إلى السلطة في مايو 2010، ارتفع متوسط الأجور في القطاع الخاص بنسبة 5.5% بحلول سبتمبر 2022، لكنه انخفض بـ 5.9% في القطاع العام.
وتوضح الصحيفة أنه بين عامي 2021 و2022، انخفض متوسط “الأجر الحقيقي” في القطاع الخاص بـ1.5%، وفي القطاع العام بنسبة 7.7%.
وكشف مكتب الإحصاء الوطني أن الفجوة بين نمو أجور القطاعين العام والخاص لا تزال واسعة، إذ بلغ متوسط نمو أجور القطاع الخاص بين أغسطس وأكتوبر الماضيين نسبة 6.9% مقابل 2.7% للقطاع العام. ورغم ذلك، يظل كلاهما أقل بكثير من معدل التضخم الذي ينمو بأسرع وتيرة منذ أكثر من 40 عاماً.
خسائر اقتصادية
وتشير الأرقام الرسمية إلى أن عدد أيام العمل الضائعة في بريطانيا بسبب الإضرابات خلال أكتوبر الماضي، كان الأعلى منذ أكثر من عقد، إذ ضاع حوالي 417 ألف يوم عمل.
وتشير تقديرات أولية إلى أن الإضرابات في ديسمبر الجاري قد تكلف العاصمة البريطانية لندن لوحدها، أكثر من ملياري جنيه استرليني.
وتوضح تقارير اقتصادية أن المطاعم والحانات، التي عادة ما تكون مكتظة في الفترة التي تسبق أعياد الميلاد، اضطرت إلى إلغاء أنشطتها بسبب الإضرابات، وهو ما قد يكلف القطاع في لندن ما يقدر بنحو 750 مليون جنيه إسترليني.
ومن المتوقع أيضاً أن يخسر قطاع التجزئة نحو مليار جنيه في الفترة ذاتها، بالإضافة إلى أن إضراب موظفي الحدود أواخر شهر ديسمبر الجاري، قد يؤثر على أكثر من 7 آلاف رحلة قادمة إلى مطاري هيثرو وجاتويك، بحوالي 1.5 مليون مقعد إجمالاً.
وأصدر “معهد الشؤون الاقتصادية” تقريراً يُقدر فيه خسارة البلاد بنحو 300 مليون جنيه إسترليني يومياً، نتيجة عدم قدرة الناس على العمل أو الإضراب، كما توقّع أن تكون الضربة التي تعرضت لها الحانات والمطاعم والفنادق بنفس خطورة تفشي المتحور أوميكرون من كورونا العام الماضي.
أما وزارة الخزانة فتقول إن منح القطاع العام زيادة في الأجور بنسبة 11% بما يتماشى مع التضخم، سيتطلب رفع المعدل الأساسي للضريبة بأكثر من 4.5 نقطة مئوية، أو ضريبة القيمة المضافة بأكثر من 3.5 نقطة مئوية، لتصل الكلفة الإجمالية لزيادة الأجور إلى 28 مليار جنيه إسترليني.