الإعلام التونسي: هل حان وقت تصويب المفاهيم
يكفي أن ننطلق من أحد الانتقادات الموجهة للرئيس التونسي قيس سعيد من طرف أحد الإعلاميين في بلاده، حتى نقف عند مجموعة من الحقائق تفند ما قيل عن سياسة الرجل في “وضع اليد على وسائل الإعلام والتواجد الدائم في غرف تحريرها والسيطرة على ضمائر الصحافيين فيها”.
نعم، وعلى سبيل المثال لا الحصر، تدخل الرئيس سعيد منذ يومين في خط التحرير ليصحح خطأ تحريريا فادحا لا يرتكبه الهواة والمبتدئون، إذ تطرق الرئيس التونسي، خلال إشرافه على مجلس الوزراء يوم الخميس الماضي، إلى خطأ ورد في إحدى نشرات الأخبار.
وأبدى سعيد احترازه من ورود خبر يتعلق بإحياء ذكرى المولد النبوي، حيث تمت الإشارة إليه بمهرجان المولد النبوي، وذكر الرئيس التونسي أنه من الأصح أن يقال “مهرجان يقام بمناسبة المولد النبوي”.
وأضاف “نحن لا نتحدث عن مهرجان قرطاج أو الحمامات أو دُقّة بل عن مهرجان بمناسبة ذكرى دينية لهذا يجب تدارك الخطأ”.
هذه عينة من نماذج التدخل التي ينبغي أن يخجل من حصولها مدراء التحرير في الإعلام الحكومي، وليس أن توضع في خانة التدخل في الخط التحريري والنيل من حرية الصحافة واستقلاليتها وهي تركز على خبر وتهمل آخر كما هو الحال بالنسبة إلى موضوع تهميش وتناسي المجهودات الحكومية والأمنية في مكافحة الهجرة غير النظامية أو الأسواق العشوائية في المدن التونسية.
أما في ما يخص السيطرة على ضمائر الصحافيين فلم يشهد التونسيون – والحق يقال – على وسائل إعلامهم العامة والخاصة، على تعددها وتنوع مشاربها، نماذج لتلك الأبواق التي تمجد سياسة قيس سعيد و”تعملق” الرجل وتضخم في صورته، كما يحدث عادة في الأنظمة العسكرية الحاكمة في البلاد العربية بل العكس، فلقد كثر المخاتلون والمتصيدون للهفوات أكثر من أي وقت مضى، حتى ليظن الزائر إلى تونس أن المعارضة هي التي تحكم وتتحكم في الإعلام.
وبالمقارنة مع حقبة ما قبل 25 يوليو 2021 فإن هامش الحريات الفكرية والسياسية والدينية قد اتسع أو زاد نضجا ورسوخا أكثر من تلك العشرية التي حكم فيها الإسلاميون بأزلامهم وأذرعهم الترهيبية التي مارست التكفير والتهديد، وعملت على تفحص أفواه المفطرين في رمضان وإهانة المأخوذين على الشبهة عبر فحص أجسادهم.
لماذا يتباكى بعضهم الآن على تلك “الحريات الإعلامية والتعدديات الحزبية والبرلمانية”؟ وهل كنا في أحسن حالاتنا فعلا أم أن “كذاب ربيعة أحسن من صادق مضر”؟
الحقيقة أن سعيد خيّر “خط تحرير تونس” من هيمنة الفساد ومؤامرات الداخل والخارج، والارتهان للأجنبي، على “خط تحرير” إعلام مضلل يصب الزيت على النار كما أكد ذلك بعظمة لسانه.
مهمة الدولة إذن، هي التصويب والتقويم والتصحيح في المسار الإعلامي، وليس الاستحواذ والتدجين والأخذ إلى بيت الطاعة كما يتوهم ويوهم بعضهم.
الكل يعلم أن الحكومة لن تأخذ الإعلام رهينة عندها، ولن تتجرأ على ذلك بعد أن ذاق الجميع طعم الذل قبل الحرية، لكن الإسلاميين وحلفاءهم جعلوا من حرية الصحافة مطية لشيطنة الدولة والتشويش على المسار التصحيحي.
كم من عملية إيقاف لأحد الأشخاص ضجت بها الصحف والإذاعات والقنوات التلفزيونية، وتحركت على إثرها منظمات حقوقية داخل البلاد وخارجها، وتأكد في ما بعد أن تلك الإيقافات تمت على خلفيات جزائية لا علاقة لحرية التعبير بها؟
يسهل بناء المظلوميات وتسويقها، ويصعب في أحيان كثيرة، تبرئة الحق ودحض الباطل، ذلك أن صناعة الأكاذيب مهنة قديمة وقد برعت فيها جماعات الإخوان منذ نشأتها.
وبقدر ما يحرص جميع التونسيين على إعلام نزيه وموضوعي، وصحافة تسهر على تتبع الأخطاء والتجاوزات مهما كان مصدرها، فإن الجميع يعلم، وبالمقابل، أن هناك أقلاما غير نزيهة ولا موضوعية، وقع الإيقاع بها وشراؤها من طرف جهات مشبوهة في الداخل والخارج.
وهذا أمر منتظر ومتوقع بعد القفزة التي حققتها الصحافة التونسية في تقصي الحقائق وفتح ملفات الفساد، لكن جماعة ما قبل 25 يوليو والمنتفعين من الفساد، أبوا إلا أن يفسدوا على التونسيين فرحتهم بإعلام وطني حر وموضوعي يساهم في تحرير البلاد من أعدائها في الداخل والخارج عبر خط تحريري موضوعي، نزيه ومسؤول.
لا أحد في تونس يستهدف حرية الإعلام غير أعداء تونس.. هذا من الثوابت التي لا تتزحزح، لكن المشكلة تكمن في حرية التفكير لا في حرية الإعلام كما أكد الرئيس التونسي الذي نبه إلى أن “حرية التعبير ليست الكذب والافتراء وليست هتكا للأعراض والتهديد بالقتل”، وهو ما انزلقت إليه بعض الجهات المحسوبة على الصحافة، وللأسف الشديد.
القضية التي نخوضها اليوم، هي تصحيح المفاهيم وتصويبها كي يفرق المواطن بين إعلام موضوعي مستقل ومسؤول، وآخر مقيد، مضلل وتضليلي، وذلك استجابة للبديهية والقاعدة الإعلامية الثابتة، والقائلة بأن الخبر مقدس والتعليق حر.