الانتخابات التركية.. والحسابات الدولية
تتوجه أنظار الدول الكبرى والعالم العربي إلى تركيا، لمعرفة هوية الفائز في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي ستشهدها يوم الأحد المقبل.
ولعل مصدر هذا الاهتمام الدولي والعربي بالانتخابات التركية يعود إلى موقع تركيا الاستراتيجي في السياسة الدولية، وتأثيرها على العديد من الملفات الحيوية، لا سيما أزمة أوكرانيا، وملف الطاقة في شرقي المتوسط، فضلا عن الأزمتين السورية والليبية، والصراع بين أذربيجان وأرمينيا في القوقاز.
فروسيا التي تطورت علاقاتها كثيرا مع تركيا خلال السنوات الأخيرة باتت ترى في تركيا جدارا سياسيا لها في مواجهة السياسة التوسعية لحلف شمال الأطلسي ( الناتو )، فيما يرى الغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي أن تركيا بتقاربها مع روسيا، وعقد صفقات سلاح نوعية معها، باتت تخرج عن ثوابت العلاقة التاريخية مع الغرب، لاسيما جناحه العسكري حلف الناتو.
وعليه كل طرف ينظر إلى الانتخابات التركية من زاوية مصالحه واستراتيجيته ونظرته إلى موقع تركيا في السياسات والصراعات الدولية.
وعلى هذا الأساس بدا الرئيس رجب طيب أردوغان هو مرشح الرئيس بوتين، فيما مرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو هو مرشح الغرب الذي يعتقد أن العلاقة بين بوتين وأردوغان هي شخصية أكثر من تعبير عن حقيقة استراتيجية في السياسة التركية، وأن ما جرى على صعيد العلاقات بين روسيا وتركيا ليس سوى لحظة عابرة لا تعبر عن حقيقة السياسة التركية التي ارتبطت بالغرب استراتيجيا بعد الحرب العالمية الثانية.
وعليه، يمكن فهم مدى تمسك بوتين بأردوغان حليفا له، وسعيه إلى نسج مصالح مشتركة معه في أكثر من منطقة من العالم لاستمرار هذا التحالف أولا، ولاستكمال التحول التركي نحو السياسة الأوراسية بدلا من الأطلسية ثانيا.
وبهذا المعنى بات الاستحقاق المنتظر في تركيا، أي الانتخابات الرئاسية، ليست مصيرية لأردوغان فحسب، بل لبوتين نفسه، إذ إن خسارة أردوغان في هذه الانتخابات ستشكل ضربة قاسية للسياسة الروسية تجاه العديد من الملفات الإقليمية، ولعل موسكو في تصورها هذا تنطلق من معادلة تقوم على أن أي منافس لأردوغان يفوز في هذه الانتخابات سيكون مواليا للغرب، وسينقلب على التفاهمات والاتفاقيات التي جرت بين موسكو وأنقرة، وهو ما يعني ليس خسارة التفاهمات الإقليمية بين الجانبين فحسب، بل خسارة مشاريع حيوية في مجالات الطاقة والتجارة والأسلحة.
ومن شأن كل ما سبق، تداعيات كارثية على الاقتصاد الروسي في هذه المرحلة الحساسة حيث استنزافها المفتوح في أوكرانيا، وهذا ما يعيه الغرب جيدا، ويحاول إظهار الحياد إزاء معركة الانتخابات التركية المصيرية مع أنه في العمق يبدي عدم الارتياح إزاء سياسة أردوغان، لاسيما بعد تراكم الخلافات بين الجانبين في السنوات الأخيرة.
والثابت هنا، أن أردوغان بسياسته المتأرجحة بين روسيا والغرب، جعل من الانتخابات التركية معركة صراع جيوسياسي دولي على سياسة تركيا أكثر من كونها مجرد استحقاق دستوري يتعلق بانتخاب رئيس جديد للبلاد.
بعيدا عن الصراع الروسي – الغربي على السياسة التركية، تهتم الدول العربية بالاستحقاق الانتخابي في تركيا، لا كطرف يقف في هذه الانتخابات إلى جانب هذا المرشح أو ذاك، بل بحكم أن تركيا دولة جوار جغرافي للعالم العربي، وتربطها بها علاقات تاريخية وحضارية ومصالح كبيرة، من شأنها مجتمعة تحقيق الاستقرار والتكامل الإقليمي في المنطقة.
في الواقع، تشير كل المعطيات المتعلقة بالانتخابات التركية إلى أن تركيا أمام منعطف تاريخي – سياسي يوم الأحد المقبل، وليس مجرد استحقاق دستوري يتعلق بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية فحسب، وعليه يمكن فهم سر الاهتمام الدولي والإقليمي بمعرفة هوية الفائز في هذه الانتخابات، فكل من أردوغان وكليجدار أوغلو يمثل رمزية سياسية مختلفة، تشكل محددا لطبيعة نظام الحكم وخياراته السياسية.
ففوز كليجدار أوغلو يعني الانتقال إلى مرحلة سياسية جديدة ومختلفة، لعل من أهم ملامحها التخلي عن النظام الرئاسي لصالح نظام برلماني، وحكم متعدد للمؤسسات، وتعددية سياسية وأيديولوجية، وربما إطلاق عملية سياسية تعيد إنتاج هوية الدولة والمجتمع والمواطنة، خاصة في ظل التفاهم الضمني بينه وبين حزب الشعوب الديمقراطية الموالي للأكراد، وتأكيده على أنه سيجعل من البرلمان التركي مكانا لإيجاد حل سلمي للقضية الكردية في تركيا، فيما فوز أردوغان يعني استمرار تركيا وفق الأجندة التركية التي كرسها الرئيس أردوغان خلال الحقبة الماضية.
وبغض النظر عما إذا كان الفائز هو أردوغان أو كليجدار أوغلو، فإن الانتخابات التركية وضعت تركيا أمام لحظة مفصلية ومصيرية للقوى المتنافسة على المشهد السياسي التركي، وإذا كان الأتراك يحبسون الأنفاس لمعرفة هوية الفائز في هذه الانتخابات فإن دول العالم، لاسيما دول الجوار الجغرافي لتركيا، تتوق لمعرفة سياسة تركيا في اليوم التالي لهذه الانتخابات.