الانفلات الديمقراطي على أبواب أوروبا
من الغريب والمثير حقاً أن يفكّرَ البعضُ ممن يعيشون في ظل نظام ديمقراطي يسمحُ بتعدد الآراء والأفكار وحرية التنظيم بالانقلاب على النظام، ومحاولة استعادة نظام سابق بائد سبّب مآسيَ كثيرة لشعبه وللعالم بأسره.
الانقلاب بهذا المعنى يطرح إشكاليات عديدة حول جدوى الديمقراطية كنظام يوصف دائماً بأنَّه الأفضل مقارنةً بغيره من النظم الموجودة في مجتمعات أخرى عبر العالم. بل الأكثر من ذلك يتم الربط بين النظم الديمقراطية وبين قيم عليا لا يمكن رفضها، من قبيل أنَّ النظمَ الديمقراطية لا تحارب بعضها بعضاً، وأنَّها تدعم الاستدامة والنمو، وتقيم دولة القانون، وتجسد التسامح بين المختلفين، وتحمي الإنسان وحقوقه في البقاء وجودة الحياة.
واقعياً، بعض هذه القيم تحققت بدرجات مختلفة، وبعضها الآخر انتهك بوضوح شديد. فما حدث في أبو غريب بالعراق، ومعتقل غوانتانامو الشهير، والمحاكمات التي جرت أوروبياً استناداً إلى دلائلَ وصفت بالسرية، كلّها تضرب في الصميم استقلال القضاء، والحق في المحاكمة العادلة، كأحد أسس الديمقراطية.
وما حدث في ألمانيا، حيث الاعتقالات لمجموعة تؤمن بأفكار تناقض تماما البيئة العامة التي يعيشون فيها، لا يعني ألمانيا وحسب، بل أوروبا إجمالاً، ومن ورائها الدول التي تؤمن بعلو وجدارة النظام الديمقراطي كمنظومة شاملة تدار بها كل مجريات الحياة. وتصريحات وزيرة الخارجية الألمانية واضحة في هذا الشأن، فالرافضون للديمقراطية الحالية لا يقتصرون على الداخل في ألمانيا، بل يتعاونون معا في جميع أنحاء أوروبا، إن لم يكن في جميع أنحاء العالم. وهنا تكمن المشكلة في عموم أوروبا، مشكلة ارتفاع معدل الرفض في أكثر من بلد للأسس الحاكمة للحياة السياسية أوروبياً.
قبل عقدين تقريبا، طُرح مفهوم العجز الديمقراطي وتم التنظير له باعتباره الحالة التي كانت تمر بها مؤسسات الاتحاد الأوروبي آنذاك وتعبر عن حالة انفصام بين عملية صنع القرار في مؤسسات الاتحاد العليا وبين التيارات السياسية الموجودة في الدول الأعضاء. كانت الحلول المطروحة تتمثل في إنشاء وبلورة أحزاب أوربية ذات منحى تكاملي تتنافس فيما بينها للوصول إلى البرلمان الأوروبي، ومنحه دورا أكبر في صنع القرار الأوروبي.
وبالفعل اتخذت عدة خطوات عززت هذا المنحى، ولكن بضوابط تمنع التأثير الكامل للبرلمان الأوروبي على صنع القرار التنفيذي، وتظل المناورات والتنازلات المتبادلة والتدخلات بين كبريات الدول الأعضاء هي الأساس الذي تُبنى عليه القرارات الجماعية. ومن ثم يظل قدر من العجز الديمقراطي قائماً في الحالة الأوروبية الجماعية.
الحالة الراهنة يمكن أن تستعير مفهوم العجز الديمقراطي، ولكن على أساس محلي أو قومي يخص كل بلد أوروبي على حدة، وفي الآن ذاته يخص الحالة الأوروبية الجماعية. المعنى المباشر لهذا العجز يتمثل في ضعف آليات الديمقراطية في الدفاع عن نفسها في مواجهة من يستغلونها كمرحلة انتقالية للانقضاض عليها لاحقا.
هؤلاء يتظاهرون بالحرص على قواعدها وقيمها وفي الوقت ذاته يضمرون الشر لها وإنهاء وجودها. ولنتصور أن بلداً أوروبياً نجح فيه مثل هذا الانقضاض، ووجد شعبية محلية تدافع عنه وتحميه.
البعض سوف يقول إن آليات الاتحاد الأوروبي سوف تجهز عليه من خلال مواقف جماعية تعزله وتنهي أي أثر له. هذا الموقف النظري يقوم على افتراض أن الانقضاض قد يحدث في بلد بعينه، يمكن احتواؤه. فماذا لو حدث انقضاض شعبوي عنيف في أكثر من بلد، أو كما تقول نظرية الدومينو إن تحقق نجاح في حالة معينة جرت معها نجاحات أخرى سريعة في بلدان أخرى، هنا تكمن المعضلة الأكبر.
والتأمل في بعض مفردات بيان الادعاء العام الألماني من قبيل «تشكيل تنظيم مسلح، واقتحام المؤسسات، وتكوين خلايا لإدارة الدولة الجديدة، ورفض الدستور الألماني الفيدرالي»، فالمتهمون يجمعهم رفض عميق لمؤسسات الدولة والنظام الأساسي الحر والديمقراطي لجمهورية ألمانيا الفيدرالية، فضلاً على مواصفات بعض الأعضاء البارزين في هذه المجموعة الانقلابية من قبيل قاضية ونائبة سابقة في البرلمان، وأعضاء عسكريين سابقين، وآخرين في القوات الخاصة وفي الخدمة… كلها تدل على أن الإيمان بجدارة النظام الديمقراطي ووضع البلاد الراهن لا يعد أمراً مُسلماً به لدى كل التجمعات والفئات في الداخل الألماني، بل يواجه تحدياً وجودياً غير مسبوق.
التحديات الوجودية لأي منظومة مجتمعية وسياسية ليست بالأمر الهين، والوصول إلى هذا المستوى من التحدي يعني أن العوامل الداخلية هي الأساس، وهناك الكثير من الدلائل على أن نمو التيارات الشعبوية واليمينية الآخذ في الصعود في ألمانيا ودول أوروبية عديدة، يمثل أكبر رسالة تحذير من أن بقاء الديمقراطية على النحو الراهن ليس مضموناً في المدى المتوسط.
الحذر وحده لا يعد كافياً. المراجعة الشاملة للرصيد الديمقراطي المنفلت بلا ضوابط تعد أمراً حتمياً، هذا إن أراد المؤمنون بهذه المنظومة الحفاظ عليها واستمرارها. والمراجعة المرجوة ليست أمنية فقط، بل يجب أن تمتد إلى المنظومة القيمية والأبعاد التنظيمية المعمول بها، والتي تسمح في لحظات الاسترخاء بأن تتشكل تيارات منظمة تدعو إلى العودة إلى نظام عتيق قبل 150 عاماً.
فالذين يدعون إلى استعادة نظام الرايخ الثالث العام 1871 ويتباكون عليه ويسعون إلى إحيائه، في تناقض تام مع أحكام الدستور، ويُسيّرون المظاهرات ويقيمون الاحتفالات، كل ذلك كان تحت سمع وبصر أجهزة الدولة، دون أن يحركوا ساكنا، بل برروا الأمر بأنه ضريبة حرية الرأي المقدسة التي لا يمكن المساس بها. عملياً وواقعياً هؤلاء المتسامحون بالانفلات السياسي والقيمي المناهض للدستور مسؤولون بالدرجة الأولى عن ازدهار مثل هذه الأفكار والتنظيرات العدمية سياسياً وتاريخياً.
الدوافع الداخلية البحتة وراء الأفكار العدمية سياسياً واجتماعياً على النحو الذي تجسده فكرة العودة إلى الرايخ الثالث لم تعد قابلة للإنكار. ومحاولة ربط الأمر بالحرب في أوكرانيا والادعاء بتدخلات روسية تحفز الأفكار اليمينية هي في قمة السذاجة والخطورة معا. لأنها ببساطة نوع من التنصل من المسؤولية التاريخية وراء حالة العجز الديمقراطي الماثلة في دول أوربية عديدة، يؤدي بالفعل إلى اختيارات غير واقعية.
فألمانيا كما في أوروبا لديها بالفعل عواملها الداخلية الموضوعية التي تغذي الأفكار والأنشطة اليمينية، وتدعم العنف، وتقسم المجتمع إلى تيارات متناحرة، بل بعضها يكون فكراً وممارسةً ضد الوجود البشري نفسه كالدفاع اللاعقلاني عن المثلية، وبذل جهود حثيثة لنشرها في بقاع مختلفة من العالم، بالرغم من الرفض العارم لهذه التوجهات المناهضة للفطرة الإنسانية السليمة.
كل هذا يحدث باسم الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان، دون الاعتبار للعلاقة العضوية بين الديمقراطية كنظام لضبط التعددية وفق قيم التسامح والتعايش المنضبط بين المختلفين، وبين الحد الذي يسمح بالانفلات القيمي والسلوكي الجماعي، ومن ثم مناهضة التعددية ذاتها ولجوء البعض للتفكير والتجهيز للانقضاض عليها.