البريطانيون يراقبون تأثير تنحي جونسون عن قيادة البلاد
تنحي رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون عن السلطة يختم فصلًا آخر في واحدة من أكثر الفترات اضطراباً في التاريخ السياسي البريطاني الحديث، ويفتح السؤال ما إذا كان رئيس الوزراء القادم قادراً على تهدئة الأوضاع السياسية والتركيز على إنعاش الاقتصاد، حيث يترقب البريطانيون تبعات هذا التنحي على البلاد.
وعمقت الاستقالة حالة عدم اليقين وسط البريطانيين، الذين يواجهون ضغوطاً هي الأشد منذ عقود على أوضاعهم المالية، على خلفية الارتفاع المستمر للتضخم، في وقت تتزايد فيه المخاوف من ركود اقتصادي على خلفية العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا وتبعات جائحة كورونا، فضلاً عن تأثيرات الانسحاب من الاتحاد الأوروبي “بريكست“.
و عقب إعلان جونسون استقالته، ارتفعت الأسهم البريطانية، الخميس، بمعدل 1.2%، فيما ارتفع الجنيه الإسترليني بنسبة 0.75% إذ تم تداوله عند 1.9 دولار، بعد أن كان في مستويات هي الأدنى منذ عامين، خلال الأسبوعين الماضيين، حين كان جونسون يصر على البقاء في السلطة، بحسب موقع “بارونز” المتخصص في الأسواق المالية.
غير أن هذا الانتعاش ليس مؤشراً على تعافي قريب للاقتصاد البريطاني، بحسب ما أكد وليد قضماني كبير محللي الأسواق المالية، إذ قال إن “الجنيه الإسترليني يبقى ضعيفاً بسبب الوضع السيئ للاقتصاد البريطاني، الذي يعاني ضعف الأداء مقارنة مع الاقتصادات الأوروبية، ومن المحتمل أن يدخل في ركود بينما يرفض بنك إنجلترا المركزي رفع أسعار الفائدة بقوة للتعامل مع تصاعد التضخم”.
أما على المستوى السياسي، فثمة ملفات حساسة ستبقى عالقة في انتظار اختيار حزب المحافظين رئيساً جديداً للوزراء، أبرزها تهديدات وحدة المملكة المتحدة مع تزايد المطالب بإجراء استفتاء آخر على استقلال اسكتلندا، فضلاً عن التوتر المتصاعد بين بريطانيا وحلفائها الأوروبيين عقب “بريكست”.
الاقتصاد البريطاني سيستفيد
كالوم بيكرينج المحلل في شركة “بيرينبرغ” (Berenberg)، اعتبر أن الاقتصاد البريطاني سيستفيد إذا تم استبدال جونسون بـ”شخص أكثر جدية”.
لكن محللي “سيتي جروب” قالوا إن هناك شكوكاً بشأن توحد التيارات المختلفة داخل حزب المحافظين، بشأن استراتيجية واضحة”، وهو ما يهدد باضطرابات اجتماعية نظراً لانعكاس ذلك على الأوضاع المعيشية للمواطنين.
وبحسب تقديرات “سيتي جروب”، فإن الأشهر المقبلة قد تشهد توجه المملكة المتحدة نحو “مزيد من الضغوط في مستويات المعيشة، وغياب استراتيجية محددة لإنعاش الاقتصاد، وانقاسماً حكومياً عميقاً”، ما يعني أن احتمال ارتكاب “أخطاء سياسية فادحة في المستقبل” من قبل الحكومة المقبلة، “يبقى أمراً وارداً”.
انتخابات مبكرة
وفي حال استمرار الانقسام داخل حزب المحافظين، فإن احتمال انهيار الحكومة والتوجه نحو انتخابات مبكرة قبل الانتخابات العامة المقررة في 2024، يبقى مطروحاً أيضاً، بحسب “سيتي جروب”.
وتسبّب جونسون في انقسام حزب المحافظين إلى فصائل متعددة ومتناحرة، حسبما أفادت “بلومبرغ”، التي تحدثت عن “حرب أهلية” في الحزب.
ومن المقرر أن يعلن موعد بدء الترشح لقيادة الحزب الأسبوع المقبل، على أن يصبح زعيم الحزب المقبل رئيساً للوزراء خلفاً لجونسون. ويمكن أن تختلف الفترة الزمنية لاختيار رئيس الوزراء اعتماداً على عدد المتقدمين للمنصب.
تجدر الإشارة إلى أن تيريزا ماي تولت المنصب بعد أقل من ثلاثة أسابيع من استقالة ديفيد كاميرون في عام 2016 وانسحاب جميع المتنافسين الآخرين في منتصف السباق.
ركود للاقتصاد البريطاني
يغادر جونسون السلطة، تاركاً وراءه بلداً على شفا الركود، حتى أن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تتوقع أنه لن يحقق نمواً اقتصادياً على الإطلاق خلال العام المقبل، وهو مصير مشؤوم لا يُنتظر أن تشارك بريطانيا فيه من بين الدول ذات الاقتصاديات الكبرى في العالم، سوى روسيا وحدها، لتنتقل المملكة المتحدة بذلك دفعة واحدة من صاحبة ثاني أسرع الاقتصادات نمواً في مجموعة السبع هذا العام بعد كندا، إلى أبطئها على الإطلاق.
وبينما تشير تقارير اقتصادية إلى حدوث تراجع الاقتصاد على المستوى العالمي، يبدو أن وضع بريطانيا غير مستقر بشكل خاص. وتشير تقديرات “جولدمان ساكس جروب” إلى احتمالات حدوث ركود للاقتصاد البريطاني بنسبة 45% خلال الاثني عشر شهراً المقبلة، مقارنة بـ40% لمنطقة اليورو، و30% بالولايات المتحدة.
هذه التوقعات المتشائمة، لم تصدر من منظمات دولية معنية بالاقتصاد فحسب، فرابطة “غرف التجارة البريطانية”، التي تمثل مختلف القطاعات الاقتصادية والشركات الكبيرة والناشئة في المملكة المتحدة، ترى هي الأخرى، أن نسبة النمو المتوقعة العام المقبل، لن تتجاوز 0.6%، بسبب الارتفاع القياسي لمعدل التضخم، إلى مستوى هو الأعلى منذ أربعة عقود، بجانب تبعات الحرب الروسية الأوكرانية.
لكن محاولات رئيس الوزراء المحافظ وحزبه، تعليق الأزمة على شماعة الحرب وحدها، لا تقنع الكثيرين في بريطانيا. فهناك من يعيد الأزمة إلى ما قبل ذلك بكثير، على الأقل إلى صيف 2016، حينما صوَّت البريطانيون بأغلبية بسيطة على الخروج من الاتحاد الأوروبي، دعماً للخيار الذي تبناه وقتذاك ساسة يمينيون ومحافظون، كان جونسون من بين أعلاهم صوتاً.
قرارات كبيرة بشأن الضرائب والإنفاق
يجب على من سيخلف جونسون، اتخاذ قرارات كبيرة بشأن الضرائب والإنفاق التي يمكن أن تقلل من مخاطر الركود، ولكنها قد تزيد أيضاً من مستوى التضخم.
عندما استقال من منصب وزير الخزانة، الثلاثاء، قال ريشي سوناك إنه اختلف بشأن السياسة المالية مع جونسون، الذي دفع منذ فترة طويلة لمزيد من التخفيضات الضريبية. بينما كانت أولوية سوناك قبل استقالته هي تخفيف عبء ديون بريطانيا، التي قفزت فوق تريليوني جنيه إسترليني خلال جائحة فيروس كورونا.
محللون في “سيتي بنك” الأميركي، قالوا إنهم يتوقعون أن يطالب المتنافسان على قيادة حزب المحافظين بريتي باتيل وليز تروس، بتخفيضات ضريبية سريعة وزيادة الإنفاق، في حين يُرجح أن يعتمد المرشحان الآخران سوناك ووزير الصحة السابق ساجد جافيد على سياسة مالية حذرة.
في المقابل، يقول وزير الخزانة البريطاني الجديد ناظم الزهاوي، وهو أحد المرشحين لزعامة حزب المحافظين، إنه “مصمّم على فعل المزيد” لخفض الضرائب. وقال في مقابلة مع شبكة “سكاي نيوز”، الأربعاء حين سُئل عما إذا كان يعتزم عكس الزيادة المقبلة في ضريبة الشركات: “كل شيء مطروح على الطاولة، وأريد أن أضمن قدرتنا التنافسية قدر الإمكان مع الحفاظ على الانضباط المالي”.
وتوقع مكتب مسؤولية الميزانية في بريطانيا، الخميس، أن تتضاعف ديون بريطانيا ثلاث مرات إلى ما يقرب من 320% من الناتج المحلي الإجمالي في غضون 50 عاماً، إذا لم تقم الحكومات المستقبلية بتشديد السياسة المالية.
استقلال اسكتلندا
على المستوى السياسي، يرتقب أن يرث خليفة جونسون أزمة شائكة تتعلق بوحدة المملكة المتحدة، إذ تنوي حكومة اسكتلندا تنظيم استفتاء جديد للاستقلال، وسط مخاوف من أن تشجع الأزمات السياسية والاقتصادية المتعاقبة في انجلترا، الاسكتلنديين على “التحرر من أسر” بريطانيا.
وصعّدت رئيسة الوزراء الاسكتلندية نيكولا ستورجن خلافها مع لندن، بإعلانها خططاً لتنظيم استفتاء ثانٍ بشأن استقلال اسكتلندا، العام المقبل، إذ تعهدت باتخاذ إجراءات قانونية لضمان إجراء التصويت، إذا حاولت الحكومة البريطانية منعه.
تمثّل هذه الخطوة مجازفة كبرى في خلاف مديد، بين الحكومة المؤيّدة للاستقلال في إدنبرة، وحكومة حزب المحافظين الحاكم في لندن، بشأن حق اسكتلندا في تنظيم استفتاء ثانٍ على الانفصال، بعد أكثر من ثلاثة قرون على تشكيل المملكة المتحدة، حسبما أفادت “بلومبرغ”.
وتظهر استطلاعات الرأي أن ثمة شبه انقسام في اسكتلندا بشأن مسألة الاستقلال، لكن ناشطين في الحزب الحاكم يدفعون في اتجاه تنظيم تصويت، بصرف النظر عمّا إذا كانت لندن توافق على ذلك.
ونشرت الحكومة الاسكتلندية في يونيو، أول ورقة في سلسلة من الأوراق بشأن الشكل الذي قد تبدو عليه اسكتلندا المستقلة، بما في ذلك اقتصادها وعلاقاتها الدولية وشؤونها المالية وعملتها، في تحديث لبيان صدر في عام 2014، من أجل إطلاق حملة جديدة قبل التصويت على استفتاء ثانٍ.
لدى اسكتلندا، مثل ويلز وإيرلندا الشمالية، برلمانها الخاص وحكومتها المفوّضة، وتضع سياساتها الخاصة في الصحة العامة والتعليم ومسائل أخرى. لكن الحكومة البريطانية في لندن تسيطر على مسائل جوهرية، مثل الدفاع والسياسة المالية.
بروتوكول إيرلندا الشمالية
بعد أكثر من ست سنوات من تصويت بريطانيا على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي ، لا تزال لندن وبروكسل على خلاف بسبب إصرار جونسون على تعديل “بروتوكول إيرلندا الشمالية”، الذي تم الاتفاق عليه في عام 2019.
وتمّ توقيع البروتوكول المذكور لحماية السوق الأوروبية الموحّدة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، من دون التسبب في العودة إلى الحدود المادية، وبالتالي الحفاظ على السلام الذي جرى التوصّل إليه في عام 1998 عبر اتفاقية “الجمعة العظيمة”، بعد ثلاثة عقود من الاضطرابات الدامية بين الوحدويين والجمهوريين.
ولهذه الغاية، أنشأ البروتوكول حدوداً جمركية في البحر الإيرلندي. لكن هذا الوضع أدى إلى تعطيل الإمدادات وزرع الغضب لدى المجتمع الوحدوي المرتبط بالبقاء داخل المملكة المتحدة.
وقد يكون رئيس الوزراء البريطاني المقبل مضطراً إلى تقديم تنازلات بشأن البروتوكول، مقابل تحسين العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي سيساعد على تدعيم الصادرات البريطانية.
غير أن حدوث تغييرات شائكة في العلاقة التجارية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي تبقى غير واردة، في حال انتخاب رئيس وزراء بمواقف عدائية تجاه الاتحاد الأوروبي، على غرار وزيرة الخارجية ليز تروس.
وبحسب “فاينانشبال تايمز”، فإن إصلاح العلاقات مع الاتحاد الأوروبي سيتطلب من رئيس الوزراء القادم تحسين العلاقات الشخصية مع القادة الأوروبيين الرئيسيين، ولا سيما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ولكن الصحيفة أشارت إلى أن هذا أمر مستبعد.
ورجحت الصحيفة أن يختار حزب المحافظين أحد المتشدّدين تجاه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كرئيس للوزراء، وهو ما قد يطيل المواجهة مع الاتحاد الأوروبي بشأن بروتوكول إيرلندا الشمالية.