التنمية قبل السياسة في مصر
محمد أبو الفضل
تحتل ملفات التنمية والمشروعات القومية مقدمة المشهد العام في مصر، وأصبحت فئات عديدة مشغولة بما يتم تحقيقه على الأرض من طرقات وجسور ومدن واستصلاح في الأراضي الصحراوية، وما سيتم إنجازه لاحقا، ما جعل البعض يقولون لا مكان للسياسة في مصر واستشهدوا بتركيز وسائل الإعلام على التنمية وتوابعها وغياب دور الأحزاب في الشارع واشتباكها مع الهموم الأخرى للمصريين.
يحتاج حديث التنمية على حساب السياسة تفكيكا ليتسنى فهم الحالة المصرية التي كانت التفاعلات بين القوى المختلفة جزءا أساسيا فيها، من جانب النظام الحاكم وتوجهاته أو معارضيه، فالسياسة نهر طويل يجدف في مياهه كل طرف بالطريقة التي تعكس رؤيته أمام المواطنين.
طغت التنمية ومفرداتها على الخطاب العام في مصر ضمن عملية لم تأت صدفة، وجاءت نتيجة تخطيط مقصود، ولم تشهد الكثير من المشروعات التي تظهر فجأة حوارا سياسيا أو يسمع عنها الناس إلا بعد أن يروها مكتملة في الواقع.
توحي الكثير من التصورات الرسمية بأن إخضاع مشروعات التنمية للحوار المجتمعي سيكون معطلا لها وقد يدخلها في عراقيل جراء غياب المعلومات عنها قبل تشييدها، خاصة أن النظام الحاكم يتصرف وكأنه في سباق مع الزمن، ويحرص على تدشين أكبر عدد منها خلال فترة وجيزة.
تتباين مبررات عدم الحوار بين تحاشي الاستغراق في مناقشات لا طائل من ورائها وبين إشراف المؤسسة العسكرية على غالبيتها ما يفرض جانبا من السرية، لكنه نقل البعد السياسي إلى منصات التواصل الاجتماعي.
غاب الجدل السياسي حول التنمية عن المشهد العام بحكم الضعف الذي أصاب الأحزاب والكسل الذي يعتري الإعلام والتضييق على الحريات، غير أنه لم يغب في تقييم المراقبين والمتابعين لأن المشروعات الاقتصادية والاجتماعية تنطوي على مكونات سياسية وتعبر عن توجهات النظام حيال حل المشكلات المتراكمة، والآليات التي ترتكن عليها الجمهورية الجديدة والمشروعات المترامية أحد ملامحها الرئيسية.
يشغل التركيز على التنمية وسائل الإعلام التي تدور في فلك الدولة ويحتل مساحة كبيرة في النقاش وفقا لمردوداتها على المواطنين، ويشغل أيضا شرائح أخرى من منطلقات سياسية في حدود الهامش المتاح أمامها والوسائل التي يمكن التعبير من خلالها عن رؤاهم لكثير من المشروعات وتقييمها من منظور سياسي وتنموي.
لم تلغ التنمية السياسة تماما في مصر، ربما قلصتها في الواقع، لكن أنعشتها في العالم الافتراضي الفترة الماضية، وبدلا من الانخراط في مصير الأحزاب والمعارك التقليدية مع الحكومة التي اختفت تقريبا، تدور حوارات على منصات متعددة باتت تشكل منتدى عاما يستقطب النخبة والسياسيين حول التنمية وجدواها وإشكالاتها، وترويج لافت من المعارضة بأنها تخدم فئة معينة قبل أن يستفيد منها عموم المصريين، وكلها أحاديث تدخل في صميم السياسة التي لا تطيقها الحكومة.
نزعت التصرفات التي قامت بها الدولة الكثير من الدسم الذي اتسمت به الساحة السياسية في مصر عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 لصالح التنمية، لأن النظام الحاكم يعتقد أن هذه معركة محورية، ونجح في جذب شرائح إليها أصبحت تشكل جبهة قوية تمنحه دفعة لمواصلة طريق التنمية التي تجعل مصر أكثر تحضرا.
فوسط ارتفاع معدلات الفقر وعدم الاستقرار الأمني يبدو لا معنى للسياسة، وفي خضم الترهل الذي أصاب البنية التحتية على مدار سنوات طويلة لا مجال لحوارات تمنح الأعلى صوتا دورا أكبر في الشارع، ومع تزايد التهديدات الخارجية أضحت السياسة في نظر النظام المصري رفاهية غير مطلوبة وسلبياتها تفوق إيجابياتها.
تمثل التنمية عصب الرؤية التي يبني النظام عليها معظم إجراءاته، وما كان لكثير من المشروعات أن ترى النور لو أنها عرضت على الأحزاب لإبداء الرأي أو خضعت لفحص من قوى سياسية مختلفة، لذلك فجزء أصيل في خطة التضييق العام أن تتحرك الأدوات التنفيذية بحرية وبلا قيود من المعارضة يمكن أن تربكها.
أدى الجفاف السياسي إلى نتيجتين متصادمتين، الأولى أن النظام حقق رغبته في العمل بمفرده وعبر أدوات يحكم السيطرة عليها وتمكن من تسريع وتيرة البناء، والثانية أنه حرم من النقاش العام ومشاركات حزبية قد يستفيد منها في رؤية الجانب الآخر لما يقوم به في مجال التنمية ما يعزز حضوره في الوجدان العام ولا يخصم منه.
فتحت تجربة السنوات التالية لثورة الخامس والعشرين من يناير عيني الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على كثير من الأزمات التي تعاني منها البلاد، وتكونت لديه قناعة أشبه بأن التنمية ضد السياسة، أو العكس، وربما تمثل تهديدا للأمن القومي، الأمر الذي يفسر دواعي التصحر في المشهد العام ويفك لغز التركيز على التنمية التي تحتاجها مصر.
لن يتقبل مصريون هذا التصحر ما لم يكن مصحوبا بإنجازات على الأرض تحطم إرادة المعارضة التي استمد بعضها قوته من علاقته بقوى خارجية، ووفر انتشار الكثير من المشروعات في ربوع البلاد وتطور العلاقات الخارجية مع الشرق والغرب فرصة للنظام لعدم الاعتداد بما يتعرض له من تكسير سياسي، وأسهمت الحصيلة التي وصل إليها في عدم التوقف عن التنمية وتحويلها إلى قاموس في وسائل الإعلام.
واجه هذا القاموس الفراغ السياسي، فعندما تتحدث جماعة الإخوان عن تضييق في الحريات واعتقالات وانتهاكات في حقوق الإنسان يتم الرد عليها بما أدخله النظام من إصلاحات، ويتم وضع مقارنة بين ما يقوم به السيسي وبين التخريب الذي قامت به الجماعة في مصر واستعدادها لهدمها إذا كان ذلك سوف يقود إلى عودتها إلى الحكم.
ضاعفت المقارنات في هذا الاتجاه مكانة النظام المصري وشوهت صورة الإخوان ورفعت الأقنعة من على وجهها، وكشفت التنمية الكثير من أكاذيب الجماعة التي درجت على تحريض المواطنين بحجة أن البلاد تعيش فوق بركان من الأزمات.
جر النظام المصري معارضيه، وفي مقدمتهم الإخوان، ليكون الخلاف معهم في مجال التنمية وليس حول السياسة وأدبيات الحكم، فالبعض ينتقدون كثرة المشروعات ويقصرون حديثهم عن الفائدة وعدم الفائدة، وهي نقطة قوة تحسب للنظام الحاكم.
ففي النهاية له بصمات على الأرض لا أحد ينكرها، ويعمل لأجل البناء والإصلاح، بكلام آخر تمكن من تحويل الأنظار نحو السياسة بمعناها التقليدي وما تنطوي عليه من تراشقات إلى معناها التنموي، ولا يحمل الخلاف تشكيكا في عملية التطوير التي يقودها وينصب التباين في التفاصيل والأولويات، وهو ما يمثل ميزة نسبية كبيرة له.