التونسيون لقيس سعيّد: تكلم حتى نفهمك
التونسيون لقيس سعيّد
الحبيب الأسود
ملتحفا بالغموض، يحث أستاذ القانون الدستوري بالجامعة التونسية المتقاعد، قيس سعيّد (61 عاما) الخطى نحو قصر الرئاسة بضاحية قرطاج، شمالي العاصمة، ليكون الرئيس السابع في تاريخ دولة الاستقلال، بعد أن ترشح للدور الثاني للانتخابات في صدارة الترتيب بنسبة 18.4 بالمئة من الأصوات (620711 صوتا)، صحبة منافسه نبيل القروي المتحصل على 15.58 بالمئة من الأصوات (525517 صوتا).
بعد إعلان النتائج، وتوضّح الصورة، ارتفعت أصوات الداعمين للمرشح سعيّد، لا فقط بشأن حسابات الجولة الثانية من الرئاسيات، بل أساسا بشأن سباق الانتخابات التشريعية التي ستنتظم في السادس من أكتوبر القادم لتفرز التشكيلة البرلمانية التي سيكون لها الدور الأبرز في الحكم.
أكثر المندفعين لدعم سعيّد هم من قوى الإسلام السياسي والتيارات الثورية الراديكالية وفلول مجالس حماية الثورة التي ترى أن الموجة الأولى مما سمّي بالربيع العربي في تونس لم تحقق أهدافها بعد الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي في 14 يناير 2011، وأن المنظومة السابقة لا تزال تتحرك في غياب قرار جذري بإقصائها، وأن تجارب الحكم التوافقي فشلت خلال السنوات الخمس الماضية، ما يتطلب العودة إلى تبني الخيار الثوري القادر على إحداث التحوّل الدراماتيكي في الصراع ليس فقط على السلطة وإنما على تحديد مفهوم الدولة وعلاقتها بالمجتمع.
ولعل قواعد حركة النهضة تأتي في مقدمة الساعين في هذا الاتجاه. لم تخف القيادات النهضوية أن نسبة مهمة من أنصار الحركة يميلون إلى قيس سعيّد، ثم جاء الموقف الرسمي للحركة الذي أكد أنها قررت دعمه دون الحاجة إلى عقد اجتماع طارئ لمجلس الشورى مثلما كان منتظرا.
هناك داعمون آخرون لقيس سعيّد من بينهم مرشحون رئاسيون شاركوا في سباق 15 سبتمبر أبرزهم حمادي الجبالي، القيادي السابق في النهضة وأول رئيس لحكومة الترويكا بعد انتخابات أكتوبر 2012، والمنصف المرزوقي، الرئيس الأسبق وأحد صقور المحور القطري التركي الإخواني، وسيف الدين مخلوف، محامي الجماعات السلفية ومرشح ائتلاف الكرامة الذي يتكون من بعض قيادات مجالس حماية الثورة المنحلّة.
يضاف إلى القائمة من يعتبرون أنفسهم ممثلي التيار الثوري مثل صافي سعيد ومحمد لطفي المرايحي ومحمد عبو وعدد من الأحزاب كالتيار الديمقراطي والحزب الجمهوري والتكتل الديمقراطي للعمل والحريات وحركة الشعب والاتحاد الشعبي الجمهوري وتيار المحبة وغيرها، مع بعض الأحزاب الانتهازية التي تفتقد إلى شرعية الشارع وتحاول أن تقفز إلى مركب قيس سعيّد عساها تجد فيه ما يعطيها دافعا لتحقيق بعض المقاعد البرلمانية في الانتخابات التشريعية.
في خضم كل هذا، يبقى قيس سعيّد أقرب إلى اللغز، فهو لا يتكلم إلا بمقدار، وعندما يتحدث ففي العموميات، بينما يبحث التونسيون عن أي تصريح قديم له على اليوتوب، أو عن أي قصاصة من صحيفة قد تكون حاملة لبعض أفكاره، محاولين الكشف عن هويته الفكرية الحقيقية. وهو الذي يمكن أن يفاجئ المتابعين بمواقف متناقضة لكن أنصاره يرون فيها منتهى الثورية، كأن يتحدث عن رفضه لفكرة الإسلام السياسي في 2011 ثم يرفض فكرة الدولة المدنية، ويدافع عن الحريات لكنه بالمقابل ضد المساواة في الميراث ومع تنفيذ حكم الإعدام وتجريم المثلية لأن المثليين في نظره عملاء للخارج.
وقد طلبت بعض الأحزاب السياسية مثل البديل التونسي، بزعامة مهدي جمعة وتحيا تونس، بقيادة يوسف الشاهد، من سعيّد أن يتحدث إلى التونسيين لكي يطلعوا على أفكاره ورؤاه ومواقفه من القضايا المرتبطة بموقعه في حال وصوله إلى كرسي الرئاسة، لكنه يواصل مقاطعة أبرز وسائل الاتصال الجماهيرية والقنوات التلفزيونية المحلية، ويكتفي بالحديث إلى قناة “الجزيرة” و”فرنسا 24″ بخطاب توافقي عام لا يحمل تفاصيل مشروعه السياسي.
يرى المراقبون أن سعيّد يتعمد الإبقاء على هالة الغموض التي كانت وراء تلك النجومية اللافتة التي بات يحظى بها لدى الشباب، وهو الذي يصفونه بالزاهد المتعفف والثائر الرافض لما كان ويكون، والقادر على تغيير حياتهم بما سيكون عندما يصل إلى قصر قرطاج.
لكن هالة الغموض تلك قد تتحول إلى حجة عليه، وهو الذي تزعم كل الأفكار والأيديولوجيات، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، في حين يتحدث أنصاره عن مشروع سياسي جديد سيمثل انقلابا على النظام القائم والدستور المعمول به حاليا والقانون الانتخابي ومنظومة الأحزاب والجمعيات وبنية السلطة وتراتبيتها وشكل البرلمان وتشكيلته.
ويتساءل البعض كيف لقيس سعيّد في حال بلوغه كرسي الرئاسي أن يصنع التحول الجذري في بنية الحكم وهو لا يمتلك السند البرلماني أو الحزبي الكبير الذي يدعمه، هذا الأمر لا يزعج أنصاره الذين يرون أن الرئيس سيتقدم بمبادرات دستورية إلى مجلس نواب الشعب (البرلمان)، وفي حالة رفضها، سيكون المد الثوري الذي يمثلونه قادرا على تحقيق الهدف عبر الحراك الشعبي، وهو أمر وارد وبقوة نظرا لعدد أنصار سعيّد وتوزيعهم الجغرافي وقدراتهم التنظيمية وتمرسّهم على أدوات التواصل والاتصال وتأييدهم التام لمشروع “الأستاذ”.
يَعد مشروع قيس سعيّد بالإعلان عن نهاية الديمقراطية التمثيلية، وبنهاية الأحزاب والجمعيات، وبإرساء منظومة جديدة تبدو أقرب إلى الديمقراطية المجالسية اللوكسمبورغية، وهي نظرية ثورية اشتراكية تحررية ضمن الماركسية، ترتكز على مؤلفات روزا لوكسمبورغ التي انتقدت سياسات لينين وتروتسكي خلال الثورة الروسية، وكذلك المركزية الديمقراطية التي لم تر أنها ديمقراطية، كما أنها استلهمت نموذج كومونة باريس سنة 1871 التي تقوم على الانتخاب المباشر من قبل المنتجين لممثليهم في الحكم مع احتفاظهم بكامل حقوقهم في مسائلتهم ومحاسبتهم واستبدالهم إذا لزم الأمر دون التقيّد بمهل زمنية.
وهذا المشروع يمكن أن نطلق عليه كذلك اسم سلطة الشعب أو الديمقراطية المباشرة أو الديمقراطية اللامركزية التي تمر عبر المجالس المحلية، لكن ليس من السهل تطبيقه على أرض الواقع إلا إذا تم فرضه من منطلقات ثورية ستؤدي إلى صراع حقيقي وليس مضمون النتائج من داخل المجتمع ببنيته التي تشكلت وفق الديمقراطية التمثيلية التقليدية.
المهم في كل هذا أن يخاطب قيس سعيّد التونسيين، وأن يطرح عليهم التفاصيل الكاملة والدقيقة لمشروعه الذي يبدو أنه تم الاشتغال عليه لسنوات من قبل عقول تعمل على استعادة مبادرة الثورة بالقطع النهائي كما القديم والمرمّم والمستحدث خلال الأعوام الماضية، وهدم البناء السياسي القديم لتعويضه ببناء جديد سيكون في كل الحالات مغامرة، ولكن أي مغامرة؟