الحرب على المحتكرين اختبار لشعبية قيس سعيد
مختار الدبابي
قد تبدو الحرب الكلامية على المحتكرين التي يعلنها الرئيس التونسي قيس سعيد يوميا في كلمات موجهة إلى الشعب شعبوية كما يصورها خصومه، لكنها تقترب أكثر من الناس الذين يشعرون لأول مرة بأن الدولة تناقش تفاصيل حياتهم وتبحث لها عن حلول، وتخوض لأجلهم معركة على الأرض مع المحتكرين الصغار والحيتان الكبيرة من ورائهم.
صحيح أن المعركة صعبة ومعقدة لأن شبكات التهريب تأسست وقويت لعقود وتمتلك من الخبرات ما يكفي للمناورة والتخفي، ولكن المحاولة مهمة للتخفيف عن الناس في وضع دولي صعب.
وإذا كانت هناك أزمة في مواد أساسية مثل الدقيق ومشتقاته والسكر والزيوت المدعومة، بسبب صعوبة توريدها، فإن الحكومة تقول إن هذه المواد موجودة وبكميات تكفي لأشهر قادمة، لكن ثمة أياد خفية تزيد من معاناة الناس بإخفاء هذه المواد وتعمد بيعها بكميات محدودة مع زيادة سعرها بما لا تتحمله الطاقة الشرائية للطبقة المتوسطة وللفئات محدودة الدخل.
يتعمد البعض من النشطاء على مواقع التواصل السخرية من نزول وزير التجارة إلى الطرقات ليلا للإشراف على عمل هيئات الرقابة التي تراقب حمولة الشاحنات بشكل دائم، وأن هذه الهيئات صارت تحجز كميات صغيرة من المواد الأساسية لا تثير في العادة أي شكوك.
ورغم هذه السخرية التي تتم عادة ضمن ماكنة للتوظيف السياسي، فإن الأعمال الصغيرة وإن كانت تبدو مبالغة في الشعبوية والاستعراض فهي ضرورية لتوجه رسالة إلى المحتكرين بأن الدولة واقفة بكل قوتها ومن صغار مسؤوليها إلى كبارهم لمواجهة المحتكرين في كل مكان.
والناس في المناطق الداخلية يعرفون ماذا تعني هذه الحملة، وكيف أن مواجهة كبار المحتكرين أهم ألف مرة من القبض على أحد المحتكرين الكبار. لقد توزع المحتكرون في كل مكان وخنقوا الناس في السنوات العشر الأخيرة ولم تكن الحكومات السابقة تفعل أي شيء لمواجهتهم بالرغم من صرخات صغار المزارعين الذين اضطر الكثير منهم إلى ترك الأرض والتوقف عن أي نشاط، لأن الاحتكار طال كل شيء من الأسمدة التي تعتمد في مقاومة الأمراض والحشرات، إلى الأعلاف الموجهة للحيوانات، وقد اشتعلت أسعار هذه الأعلاف إلى مستوى غير مسبوق.
ماذا فعل هؤلاء الذين يسخرون من تهديدات سعيد للمحتكرين ومن نزول الوزراء للإشراف بشكل مباشر على حملات المراقبة. لم تكتف الحكومات السابقة بإدارة ظهرها لاستغاثة صغار المزارعين وتركهم يواجهون لوحدهم مخلفات الاحتكار والجفاف، بل تحالفت أغلب الأحزاب مع المحتكرين ودعمتهم وحمتهم مقابل أن يكونوا جزءا من ماكنتها في الحملات الانتخابية المحلية، وبعضهم ترشح ضمن قائمات حزبية وفاز ليصبح له نفوذ مضاعف.
لكن المهم هنا أن تحقق الحملة على المحتكرين نتائج سريعة وواضحة للعيان ويلمسها الناس في حياتهم اليومية، وإلا صار الأمر مجرد استعراض كلامي. وهو أمر قد يحقق صدمة مضاعفة خاصة أن الكثيرين باتوا يرون في سعيد قشة النجاة الوحيدة التي يمكنها أن توقف طوفان الفساد والاحتكار والمضاربة والمحسوبية، ويريدون أن يروا بأعينهم نتائج على الأرض ليشعروا بالأمان في بلد صار كل تاجر يتحكم لوحده بأسعار قطاعه ويزيد متى أراد.
إن الحرب على الاحتكار لا يجب أن تتوقف عند نشر فيديوهات تظهر نجاح الرقابة في وضع يدها على كميات من المواد الأساسية تمت تخبئتها استعدادا لإنزالها إلى الأسواق في رمضان وبأسعار عالية. الفيديوهات مهمة في رفع معنويات الناس ومعنويات الحكومة نفسها، ورسالة تحد للمضاربين والمتاجرين بأقوات الناس، لكن الأهم أن يلمس الناس ذلك في عودة المواد الأساسية إلى رفوف المتاجر الكبيرة والصغيرة، وأن يقدر الناس أن يشتروها بيسر وبأسعارها المعلومة، وأن تتحكم الدولة في قرار زيادة الأسعار وألا تتركها لعبة بأيدي المضاربين كما كان يحصل في السابق.
التحرك السريع مهم لطمأنة الناس الذين باتوا يتناقلون الإشاعات بشأن وضع صعب ستشهده البلاد في الأيام والأشهر القادمة، وهو ما عكسته عمليات الشراء المحمومة التي قادت إلى إفراغ رفوف العرض من المواد الأساسية، وبات الناس العاديون يشترون تلك المواد ويخزنونها تحسبا للطوارئ. كما بدأت ظاهرة الطوابير تنتشر أمام المحلات وخاصة أمام المخابز في مظهر يزيد من مخاوف الناس.
ومن جانب آخر، لا بد أن تمتلك الحكومة الجرأة الكافية لتواجه الناس بالحقائق، فالأمر لم يعد فقط معركة داخلية ضد الاحتكار وارتفاع الأسعار، فأزمة الداخل مرتبطة بأزمات الخارج، وهي أزمة تتعرض لها الدول الكبرى والصغرى على حد السواء. فالحرب في أوكرانيا قادت وستقود إلى أزمة حادة بشأن القمح ومشتقاته، وأي حكومة مهما كان حرصها لن يكون بمقدورها تخزين كميات لأكثر من أشهر معدودات.
ويمكن للحكومة أن تستشهد بالأرقام وتحاليل الخبراء لتقول للناس إن هذه الأزمة طارئة ونحن لا نقدر على أن نواجهها سوى بالحكمة والتحمل والتقشف، وإن الحملات التي تستهدفها هي حملات سياسية ليس أكثر، وإن الناس بدل أن تغضب على حكومة استلمت البلاد منذ أشهر قليلة عليها أن تسائل أولئك الذين حكموا لسنوات ثم قادوا البلاد إلى ما وصلت إليه من أزمة غذائية، من ذلك فضائح إتلاف القمح في السنوات الماضية وإهمال نصائح المختصين بالتحرك المسبق وتوفير أماكن لائقة لتخزين المنتجات المحلية من الحبوب. لكن الحكومات السابقة لم تفعل شيئا لأن اهتمامها كان مركزا فقط على الصراعات السياسية وخطط اختراق الدولة ووضع اليد على مؤسساتها.
أزمة القمح، وأزمة النفط والغاز، وأزمة السكر.. كلها أزمات خارجية وما تقدر عليه الدولة هو خوض الحرب على المحتكرين والسعي لتوزيع المواد الموردة على الناس وتزويد السوق بشكل منتظم.
ولا ننسى كذلك أن جزءا من أزمة التوريد يعود إلى تراجع الدينار أمام العملات الأجنبية وخاصة الدولار واليورو، وهي أزمة سابقة لحكومة نجلاء بودن واستلام سعيد لزمام الأمور. إنها نتائج منطقية لفشل حكومات الثورة والشعارات السياسية.
إن الحرب على المحتكرين ستختبر فعليا شعبية سعيد وقربه من الناس ومشاغلهم، فإن نجح في جعلهم يشعرون بالأمان في هذه الحرب، فلن تقف أي ماكنة سياسية مهما كانت بوجهه في المستقبل.