الحريق الذي أجهز على إخونجية تونس
الأمن التونسي يحقق وقيادات النهضة في قفص الاتهام الشعبي
قنبلة من العيار الثقيل فجرتها شقيقة الضحية سامي السيفي، في وجه قيادات حركة النهضة الإخونجية التي زعمت أنه “انتحر” بإضرام النار في جسده بالمقر الرئيسي للحركة قبل يومين، وفتحت نيران النقد والإدانة لتصريحات رئيس الحركة راشد الغنوشي ووضعته في قفص الاتهام.
الرواية التي حاول الإخونجية الترويج لها هي أن سامي السيفي، أحد منتسبي الحركة، “انتقل إلى رحمة ربه كواحد من ضحايا تعطيل الدولة لمسار العدالة الانتقالية وعدم إنصاف المساجين السياسيين الذين تعرضوا للظلم والقهر في العهد البائد وللترذيل والتشويه بعد الثورة”.
بيان الحركة الإخونجية الذي نشرته عبر صفحتها الرسمية بموقع فيسبوك، ونشرته أيضا صفحة زعيم التنظيم راشد الغنوشي، فجر الغضب المحلي من تشبث الرجل بمحاولة تحقيق نقاط سياسية واستهداف الدولة التي باتت خارج سلطته حتى في أكثر المواقف الإنسانية صعوبة.
وما بين تصريحات شقيقة السيفي وبيانات الغنوشي وحركته، تطوق النيران تنظيما وصل الحكم في تونس ذات يوم على ظهر احتجاجات شعبية اندلعت عقب إحراق الشاب محمد البوعزيزي نفسه، وها هو اليوم يتأهب للخروج من الباب الصغير مدفوعا بذات النيران، لكنها “صديقة” هذه المرة.
تم استدراجه بخطة محكمة
سميرة السيفي شقيقة سامي الذي قضى محترقا في مقر النهضة، أدلت بتصريحات فجرت مفاجأة من العيار الثقيل بتشددها على أن شقيقها تم استدراجه، ما يفتح القضية سواء في بعدها الإعلامي أو “الجنائي” أو حتى السياسي على أكثر من سيناريو.
سميرة أكدت أن شقيقها وقع استدراجه بخطة محكمة ليذهب إلى مقر النهضة بالعاصمة، ولم ينتحر حرقا وتم تغطية ذلك بافتعال حريق.
وقالت: “خويا ما انتحرش وماهوش مخصوص ولا محتاج (أخي لم ينتحر ولم يكن في حالة عوز) ! هو ذهب لمقابلة الغنوشي بطلب من الغنوشي ! تم استدراج أخي بطريقة محبوكة وسنحاكم حركة النهضة”.
تحقيقات الأمن التونسي
وفي وقت تتواصل فيه تحقيقات الأمن التونسي بشأن الحريق وحادثة الانتحار المفترضة، تتواتر قراءات مختلفة لتصريحات سميرة السيفي، حيث يرى البعض أنه من الممكن أن يكون هناك بعض الحلقات المفقودة في الموضوع برمته، كأن يكون سامي يمتلك أدلة على تورط الغنوشي وبعض قيادات الإخونجية في أحداث إرهابية استهدفت تونس، سواء بفترة ما قبل احتجاجات 2011 التي أوصلتهم للحكم أو بعدها.
فقد يكون السيفي، وهو أحد المتهمين من قبل النظام السابق بالتورط في عملية إرهابية قبل نحو ثلاثة عقود في سياق محاولات النهضة الانقلاب على النظام، وأحداث أخرى كلفته السجن لسنوات في تسعينيات القرن الماضي، ما يعني أن للرجل دور ما أو وزن معين داخل النهضة، وهو ما يقود بالتالي إلى احتمال وجود تقاطعات بينه وبين الغنوشي و/ أو قيادات إخونجية أخرى.
تخمينات ترسم ملامح فرضية تقوم على أن سامي الذي يعاني من وضعية اجتماعية صعبة ومن البطالة، حاول مرارا وتكرارا الحصول على تعويضات سنوات “نضاله” مع النهضة، لكن يبدو أن الأخيرة تتجاهله لسبب أو لآخر، وقد يكون الأمر بلغ حد التهديد بفضح أسرار وهو ما أجبر الغنوشي على التظاهر بالموافقة على لقائه، ومنحه موعدا ملغوما، وعقب دخوله مقر الحركة تم سكب البنزين على جسده وإضرام النار فيه لإخراج الحادث على أنه انتحار، خصوصا أنها الطريقة التي يلجأ إليها الكثيرون للاحتجاج.
هنا، سيكون للأمر بعد جنائي وقد تتخذ القضية منحى مختلفا تماما، لكن قد يكون الأمر أيضا أن السيفي حصل على موعد للقاء الغنوشي بالفعل، لكنه حين ذهب إلى مقر الحركة جرى إبلاغه بأن الأخير غير موجود، ما جعل الغضب واليأس يتمكنان به فأضرم في نفسه النار.
الحلقات المفقودة
جميع الاحتمالات تظل واردة، وإن تحمل التفاصيل المحيطة بالحادثة الكثير من الحلقات المفقودة والتفاصيل التي يبدو أن لا أحد يعرفها سوى السيفي وقيادات الإخونجية، خصوصا أن عائلة الرجل رفضت أن تحضر قيادات الحركة جنازة ابنها.
أيضا تصريح آخر يأتي من أحد أصدقاء السيفي، والذي اعتبر أن كل ما قيل بخصوص الحادثة “مغالطات” وإن الهالك كان “يعاني من التجاهل وسوء المعاملة من قبل قيادات الحركة”.
وأضاف أن صديقه قضى حكما بالسجن لمدة 15 سنة على خلفية حرق المعهد الفني بتونس بإيعاز من بعض قيادات النهضة”.
وأوضح أن السيفي كان يعمل في شركة لتوزيع الأدوية وتم طرده بصفة تعسفية، ثم حصل على منحة مالية من مكتب “شؤون المناضلين” لحركة النهضة قبل أن يتم التراجع عنها، وتوظيفه كحارس وتكليفه ببعض الأعمال التي كان يرفض القيام بها مثل تنظيف السيارات.
وتابع أنه طالب بعد ذلك بحقه في العيش الكريم وتمتيعه بنصيبه من التعويضات، مشيرا أيضا إلى أنه دخل منذ سنة في إضراب جوع داخل مقر الحركة قبل أن يتم “طرده بصورة مسيئة وعن طريق الأمن”.
وأكد أن ظروفه الاجتماعية كانت صعبة، وأنه كان على اتصال به منذ 4 أيام وأخبره بأنه يريد فتح محل لبيع الملابس المستعملة، كما كان يهدد بالفترة الأخيرة بوضع حد لحياته في صورة تواصل تجاهل مطلبه.
السطر الأخير
ما يتفق عليه معظم المحللين للشأن التونسي هو أن الحادثة -بغض النظر عن حيثياتها- كتبت السطر الأخير في نهاية حركة النهضة الإخونجية في تونس ورئيسها راشد الغنوشي.
نهاية بدأت منذ فترة حين خرج الصراع بين شقي “الصقور” بقيادة الغنوشي، و”الحمام” الذي يمثل الجناح المعتدل للحركة ويضم قيادات بارزة أمثال عبد اللطيف المكي، إلى العلن، ليبدأ نزيف الانشقاقات والاستقالات وبلغ الأمر حد استقالة أكثر من 100 قيادي في النهضة دفعة واحدة احتجاجا على “الخيارات السياسية الخاطئة” لقيادة الحزب.
فبعد سنوات من مركزية القرار داخل النهضة، واستحواذ الغنوشي على القرار والأموال، انكسرت الهالة التي كان الأخير يحاول إحاطة نفسه به، وانفرط العقد، لتطالب قيادات من جحره برفع يده عن الحركة وتمرير مشعل القيادة للشباب، لكن الغنوشي الذي يعتبرها من أملاكه الخاصة ويستأثر بزعامتها منذ أكثر من 40 عاما، يناور من أجل عدم عقد المؤتمر السنوي وتسليم القيادة خصوصا أن القوانين الداخلية نفسها تنص على استبعاد الغنوشي.
واليوم، وبعد خروج الحركة من الحكم من الباب الصغير عقب قرارات رئاسية استثنائية وضعتها على هامش التاريخ، تتلقى الحركة وزعيمها ضربة قاتلة تحيلها على تقاعد وجوبي أو انشطار أو اندثار تام.
فحادثة السيفي جاءت في توقيت دراماتيكي للحركة وزعيمها الذي يواجه لفظا من قيادات بالحركة وأنصاره والشعب التونسي عموما، ما يدفع بقوة نحو فرضية انقسام الحركة إلى حزبين: الأول سيحتفظ فيه الغنوشي بالزعامة، والثاني سيكون حزبا جديدا يخرج فيه جناح “الحمام” برؤية مختلفة.
لكن ما سيحدث في حال تحقق الطرح، هو أن الحزب الأول سيغدو واهنا إلى درجة أنه قد يتراجع ليكون بذيل استطلاعات الرأي، ما قد يدفع الغنوشي نفسه نحو البحث عن “خروج آمن” من تونس ويعود إلى منفاه في بريطانيا.
صفقة الغنوشي مع بن علي
تحمل الكثير من قيادات النهضة وأعضائها وأنصارها نوعا من النقمة تجاه الغنوشي الذي تخلى عنهم في ثمانينات القرن الماضي في إطار صفقة مع الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، نجا عبرها من حكم إعدام في عهد الحبيب بورقيبة.
ووفق روايات موثقة، فإن الغنوشي سلم لائحة بأسماء حركته التي كانت تسمى حينها “الاتجاه الإسلامي” مقابل الخروج من تونس، وهو ما حصل بالفعل، حيث توجه إلى الجزائر المجاورة ومنها إلى بريطانيا، تاركا قيادات أخرى وأنصاره بالسجون.
ورغم انقضاء الزمن، لم يغفر هؤلاء ولا أبناؤهم ولا الأجيال اللاحقة للغنوشي فعلته، وسامي كان أحد هؤلاء المساجين، وما حصل معه سواء كان انتحارا أو غير ذلك يعتبر أكبر مظهر لحالة النقمة والغضب من زعيم الإخونجية، يضاف إلى كل ذلك ما راكمته سنوات حكمه سواء حزبيا أو في الدولة من معاناة لأنصاره وللشعب بأكمله جراء سياسات وخيارات خاطئة.
فهؤلاء الذين سجنوا من أجل الحركة يعتبرون أنهم قدموا تضحيات جسيمة بمنحها سنوات شبابهم المهدورة في الزنازين وحرمانهم من وظائفهم، ويرون أن تعويضهم حق مقدس.
نقمة راكمتها السنوات خارج الحكم وفيه، تدفع اليوم نحو “انتحار” السيفي و”كم من سيفي انتحر وهو على قيد الحياة”، كما يقول مستخدمون لوسائل التواصل من قواعد الحركة، حين لم يمنحهم طوال حكمها سوة المزيد من التهميش والفقر.
وفي خضم كل ذلك، تظل الرسالة الأبلغ التي وجهها انتحار السيفي للغنوشي ورفاقه هي أن البوعزيزي الذي أحرق نفسه قبل 10 سنوات وأوصل الإخونجية للسلطة، استنسخ آخر لكن من عقر دار التنظيم، أحرق نفسه ليخرجكم من لعبة السياسة.