الدبيبة وشعار البقاء في الحكم بأي ثمن
الحبيب الأسود
يسعى رئيس حكومة تصريف الأعمال الليبية عبد الحميد الدبيبة إلى دق الأسافين على أكثر من صعيد. هو يحاول فرض حالة الانقسام بين أبناء مدينة مصراتة، وبين الجماعات المسلحة على مستوى الغرب الليبي، وبين عموم الليبيين في كافة أرجاء البلاد، على أن يكون ذلك الانقسام بين مناصريه ومن يقفون مع رئيس الحكومة المكلف فتحي باشاغا، وفي سياق صراع على السلطة التي يرفض الدبيبة التخلي عنها مهما كان الثمن.
فجأة تحول الدبيبة إلى “الأخ قائد ثورة 17 فبراير” والمدافع عن مبادئها وثوابتها وأهدافها وشعاراتها في وجه أعدائها والمتآمرين عليها من جيوب الردة ورموز الثورة المضادة، كما أصبح الأب الراعي للثوار الأشاوس والمدافع عن حقوق الشهداء والمصابين وحامي حمى البلاد بسلاح فيالق المسلحين ممن يصفهم المجتمع الدولي بعناصر الميليشيات أو الجماعات الإرهابية كتلك التي كانت تنتمي إلى مجالس شورى المجاهدين في بنغازي ودرنة وإجدابيا وسرت وغيرها، والتي وجدت في غرب البلاد ملاذا من ضربات قوات خليفة حفتر.
خلال الأيام الماضية، اختار الدبيبة أن يتبنى بالكامل وصايا مستشاريه ومساعديه وعلى رأسهم راسم الخيارات الإعلامية وواضع الشعارات السياسية وليد اللافي، وأن يتجه لرفع شعارات لا تقول إنه رئيس حكومة الوحدة الوطنية أو أنه جاء نتيجة توافقات سياسية، وإنما تشير إلى أنه ممثل تحالف الإخوان و”القاعدة” والحليف الرسمي لمجالس الثوار والمرشح من قبل المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته بتوصية خاصة من المرشد العام الصادق الغرياني، وكل ذلك من أجل هدف واضح ومعلن وهو نيل ولاءات الميليشيات، وضمان التحصّن بسلاحها في مواجهة باشاغا الذي يخوض من جانبه مشاوراته لتشكيل حكومة جديدة.
يمتلك الدبيبة سلطة المال التي يستعملها في خدمة مصالحه سواء للوصول إلى الكرسي أو للحفاظ عليه، ويمتلك سلطة الحكم التي تعطيه مفاتيح التصرف في خزينة الدولة بصرف المليارات لتحقيق رصيد من الشعبية في مجتمع مطحون يعاني من الفقر المدقع وهو يتعثر بهمومه فوق بحيرة من النفط والغاز. ومن خلال سياسات الوعود ودبلوماسية الصفقات والعقود يطمح الدبيبة للاستمرار في الحكم لسنوات طويلة قادمة كممثل لأصحاب المصالح المالية والاقتصادية وصانعي خارطة التحرك الخفي للمال العام ومالكي أولوية التعاقد الاعتمادي مع مثلّث القرار في ديوان حكومته والمصرف المركزي وديوان المحاسبة.
يراهن الدبيبة والواقفون وراءه، على بقائه في الحكم لسنوات قادمة، وعندما تعهد أمام ملتقى الحوار السياسي ومجلس النواب بأنه لن يترشح للانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة للرابع والعشرين من ديسمبر الماضي، كان يسعى لضمان الوصول إلى سدة رئاسة مجلس الوزراء، وهو ما حصل فعلا، ثم انقلب على ذلك التعهد، وحوّل كل مقدرات الدولة لفائدة حملته الانتخابية السابقة لأوانها ولتحقيق شعبية جارفة تؤمّن له منصب فخامة الرئيس، وعندما أعلن ترشحه فعليا برّر ذلك بأن تعهّده السابق كان تعهدا أخلاقيا وليس سياسيا، ثم أصرّ على تجيير سلطاته ونفوذه لخدمة تطلعاته، ليكون بذلك أحد أهم الأسباب التي أدت إلى العصف بموعد الاستحقاق والدفع به إلى أجل غير مسمّى.
اليوم، يركب الدبيبة صهوة الوعد والوعيد، الوعد بأن يضمن تنظيم الانتخابات في يونيو القادم دون أن يترشح لها، وهو أمر من الصعب تصديقه باعتباره قد خالف تعهداته السابقة، والوعيد بأنه لن يتخلى عن منصبه، وما يخفيه ذلك من مؤشرات عن استعداده لخوض جميع الاحتمالات، ولاسيما أنه يتجه للتمترس وراء بعض الميليشيات كنوع من التأسيس لمرحلة التحول من شخصية الدبيبة المهندس المدني ورجل الأعمال ورئيس حكومة الوحدة الوطنية إلى الدبيبة الثري المتستر بسلاح الميليشيات والساعي إلى تقسيم البلاد فقط لأنه يرفض التخلي عن السلطة من منطلق قناعته بأن خروجه منها يعني أنه لن يعود إليها أبدا.
اليوم، يخوض الدبيبة حربا معلنة ضد مجلس النواب كما كان في حرب مفتوحة مع قيادة الجيش ومحرضا على رموز النظام السابق ولاسيما بعد ترشح سيف الإسلام القذافي، وهو في مواجهة مع فريق مجلس الدولة المتوافق مع البرلمان، وفي خلاف حاد مع الطيف السياسي الداعم لباشاغا، ومع الفعاليات الاجتماعية التي تدعوه إلى التعقّل، ويبدو أقرب إلى الجماعات المتشددة التي ترى في وصول باشاغا إلى رئاسة الوزراء ضربة موجعة لها، باعتباره يعني توافقا بين الحكومة القادمة وقيادة الجيش وبين مجلسي النواب والدولة، وبداية فعلية لمرحلة المصالحة الوطنية وتوحيد المؤسسة العسكرية، وقطعا للطريق أمام من كانوا ينامون في فراش الشقاق والانقسام بين مصراتة وبنغازي، وبين طرابلس وطبرق، وبين شرق البلاد وغربها، وبين الجيش والميليشيات.
ربما تشهد ليبيا تطورات سلبية بسبب تمسك الدبيبة بالسلطة، ولكن المؤكد أنه يحتاج إلى ضمانات أولا، فالرجل أهدر عشرات المليارات من الدنانير خلال عامه الأول في الحكم، وتعامل مع أذونات الصرف من خارج شرعية البرلمان بنزعة الحاكم الباقي في كرسيه إلى ما لا نهاية، وأثارت علاقاته مع أساطين المال والأعمال الكثير من الجدل، وقد فتح أبواب الدولة ومؤسساتها للأهل والأقارب والأصدقاء والأحباب والشركاء، وهناك وزراء ووكلاء ومدراء من أركان حكومته ممن يخضعون للسجن الاحتياطي بشبهات فساد مرتبطة بدائرة نفوذه وبالتجاذبات القائمة حول من يجدر به تحمل المسؤولية الجنائية، وكذلك لا بد من الإشارة إلى أنه ترشح لرئاسة الحكومة في ملتقى الحوار في إطار تشوبه شبهات الرشى لشراء الأصوات، وهو يطمح إلى حكم لا يزول، وإنما سيطول ضمن توافقات أصحاب المصالح المالية والاقتصادية والجهوية والمناطقية مع محاولة لمراعاة التوازنات الإقليمية والدولية بصفقات دبلوماسية، وكاد أن يصل إلى هدفه بتحقيق الفوز في الرئاسيات لولا الرجة التي أحدثها ظهور سيف الإسلام، وانقسام المجتمع الدولي حولها، بما أطاح بالاستحقاق.
سيستعمل الدبيبة كل الإمكانات المتاحة للبقاء في الحكم، وأخطر ما قد يعتمد عليه هو الشقاق الاجتماعي والصراعات بين الميليشيات، أما المال العام فإن إهداره أصبح أمرا عاديا ولا يثير أي استغراب حوله، وخاصة إذا كان مدرجا في باب الطوارئ.