الرئاسي الليبي.. فاقد الشيء لا يعطيه
يحاول المجلس الرئاسي الليبي البحث لنفسه عن دور أساسي في المشهد السياسي ولكن في الوقت الضائع، وهو اليوم يتحرك بزعم القدرة على تغيير الواقع من خلال دعوته إلى اجتماع ثلاثي مع رئيسي مجلسي النواب والدولة في مدينة غدامس الواقعة في المثلث الحدودي مع تونس والجزائر، ويعمل على إعطاء أهمية قصوى لمبادرته وتحقيق ما يحتاج إليه من الغطاء الدولي والمساندة الشعبية، رغم أنه يعلم جيدا أن المحاولة فاشلة منذ البداية، وأن تناقضات المشهد في الداخل وما يحيط بها من تداخلات خارجية يجعلانه في موقف العاجز الذي لن يستطيع اللحاق بركب القدرة على التأثير الحقيقي بعد 23 شهرا من تكليفه بالدور المسند إليه.
المجلس الرئاسي كيان سياسي غير منتخب، جاء في سياقات شابتها شبهات الفساد في ملتقى الحوار السياسي سواء في تونس أو في جنيف، ووفق اتفاق انتهى أجله القانوني منذ منتصف العام المنقضي، وهو في الأصل جزء من منظومة عبدالحميد الدبيبة بما لها وما عليها، ويخضع بشكل واضح لخيارات التيار الذي تمثله تلك المنظومة، وكل ما يصدر عنه يبقى تحت سلطة العجز المسيطر عليه، وخاصة على رئيسه محمد المنفي الذي لا يزال يقضي إجازته الأسبوعية في أثينا حيث تقيم أسرته منذ أن تسلم مهامه كسفير لبلاده في اليونان في ديسمبر 2018.
ويجمع أغلب الملاحظين على أن المجلس الرئاسي غير قادر على تنفيذ أي قرارات أو خيارات قد يقرّها، وهو الذي لا يمتلك سلطة حقيقية على الأرض رغم أنه يحمل صفة القائد الأعلى للقوات المسلحة، حيث لا تعترف به قيادة الجيش في الشرق، ولا تعبأ به ميليشيات المنطقة الغربية، بينما رئاسة الأركان في طرابلس تتبع رسميا وعمليا رئيس الحكومة المنتهية ولايته، وفي مناسبات عدة اندلعت معارك بين ميليشيات خاضعة للحكومة وأخرى خاضعة للرئاسي، وكانت النتيجة أن انتصر مسلحو طريق السكة على مسلحي قاعدة بوستة البحرية، وهو أمر له ما يبرره، حيث أن القوة الميدانية الأهم هي التي يشرف عليها الدبيبة بصفته رئيسا للحكومة ووزيرا للدفاع ووزيرا فعليا للداخلية ومالكا أصليا لقرارات الصرف والتحكم في زواريب المصرف المركزي.
المجلس الرئاسي، مجتمعا، لديه جملة اختصاصات أقرها ملتقى الحوار السياسي من بينها القيام بمهمة القائد الأعلى للجيش الليبي، والتعيين في المستويات القيادية به وفق التشريعات النافذة، وإعلان حالة الطوارئ وقراري الحرب والسلم بعد موافقة مجلس النواب، واعتماد ممثلي الدول والهيئات الأجنبية لدى دولة ليبيا، وتعيين وإعفاء السفراء وممثلي دولة ليبيا لدى المنظمات الدولية بناء على اقتراح من رئيس الحكومة وفق الاتفاق السياسي الليبي والتشريعات الليبية النافذة، والتصديق على البعثات الدبلوماسية الجديدة.
كما أنه، وخلال مشاورات تشكيل الحكومة يسمي رئيس الحكومة وزيري الدفاع والخارجية مع وجوب التشاور مع المجلس الرئاسي مجتمعا، على أن يلتزم رئيس الحكومة بإحالة التشكيلة الوزارية كاملة إلى مجلس النواب، ولكن ومنذ تسلمه مقاليد السلطة في مارس 2021 لم يبدِ أي قدرة حقيقية على تكريس نفوذه أو مزاولة اختصاصاته إلا في إطار ضيق وخجول، ولاسيما أن وزارة الخارجية باتت شبه ملحقة بمكتب إبراهيم الدبيبة المحرك الفعلي للعمل الحكومي في طرابلس، وعبدالحميد الدبيبة تمسك بحقيبة الدفاع لنفسه ورفض تكليف أي شخصية أخرى بها ليكون له القرار الأول والأخير في قرارات التعيين والعزل والترقيات وسحب الامتيازات وعقد الاتفاقيات التي باتت أقرب إلى الصفقات.
ومن الطبيعي أن المجلس الرئاسي لا يمتلك القدرة على إعلان حالة الطوارئ وقراري الحرب والسلم، أولا، بسبب عجزه الميداني وعدم امتلاكه آليات التنفيذ، وثانيا، لأن الاتفاق السياسي يربط ذلك الاختصاص بموافقة مجلس النواب الذي لا يزال ينسب لنفسه صفة القائد الأعلى للقوات المسلحة في مناطق نفوذ وسيطرة الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر، وهو ما يعني أن الرئاسي لن يستطيع في أي حال من الأحوال فرض قرارات من هذا النوع، لا في الشرق والجنوب حيث الكلمة الأولى والأخيرة للجنرال حفتر، ولا في المنطقة الغربية حيث الكلمة لتيار الدبيبة وما يحتكم عليه من سلطة المال ومن سلاح الميليشيات.
يبقى أن للمجلس الرئاسي اختصاص إطلاق مسار المصالحة الوطنية، وتشكيل مفوضية وطنية عليا للمصالحة لتنفيذ المهام الواردة بالمادتين 2 و6 من خارطة الطريق، وقد سار في هذا الاتجاه بجملة من القرارات والتوصيات التي تبقى حبرا على ورق، نظرا إلى أن المصالحة ليست سوى جزء من مسار سياسي واجتماعي وأمني وقانوني، وليست مجرد شعار يرفعه هذا الطرف أو ذاك، ولا يستقيم الحديث عنه إلا في ظل توفر النوايا الحسنة داخليا وخارجيا لطي صفحة الماضي والانطلاق نحو تشكيل ملامح المستقبل بمشاركة جميع الليبيين ودون إقصاء أي من الأطراف.
وعندما نعلم أن ليبيا تعيش حالة انقسام سياسي واجتماعي وعسكري، فذلك يعني أن المصالحة ستتمحور في مرتبة لاحقة حول ضرورة فسح المجال لتوفير الظروف الملائمة لإعادة توحيد مؤسسات الدولة وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، وحل الميليشيات المسلحة وجمع سلاحها، وطرد المرتزقة الوافدين، وإجلاء القوات الأجنبية، وإطلاق سراح الأسرى والسجناء وخاصة من برأهم القضاء أو أنهوا فترات العقوبة المسلطة عليهم، وهذه أمور لا يستطيع المنفي الاقتراب منها أو الحديث بشأنها.
وقد أثبتت الأيام، أن المجلس الرئاسي ليس بوسعه اتخاذ أي موقف حازم أو قرار حاسم لحلحلة الأوضاع، ولذلك فإن رئيسه غالبا ما يكتفي بالدردشات مع زعماء القبائل في المنطقة الشرقية التي ينحدر منها، ومع السفراء الأجانب أو بعض الناشطين في العاصمة حيث يباشر مهمته، بالإضافة طبعا إلى رحلاته الخارجية للمشاركة في القمم والاجتماعات الرسمية والتي تمثّل حالة من الكوميديا السوداء، ولاسيما عندما يبدأ في اقتراح الحلول للقضايا الإقليمية والدولية، رغم معرفته بأن فاقد الشيء لا يعطيه.
في الفترة الأخيرة، حاولت بعض الأطراف الدفع بالمجلس الرئاسي إلى المغامرة بإعلان حالة الطوارئ وحل مجلسي النواب والدولة المنتخبين اقتداء بتجربة الرئيس التونسي قيس سعيد، لكن النائبين عبدالله اللافي وموسى الكوني رفضا ذلك بشدة وحذرا المنفي من اتخاذ أي قرار في هذا الاتجاه، خصوصا وأن انتخاب المجلس الحالي بجنيف في فبراير 2021 كان نتيجة اتفاق سياسي بين مختلف الأطراف، بما فيها مجلس النواب المنتخب منذ 2014 ومجلس الدولة المكون من فلول المؤتمر الوطني العام المنتخب في 2012 وقيادة الجيش التي لا يمكن تجاوزها في أي قرار مهما كانت درجة الاختلاف معها، انطلاقا من أن السلطة الفعلية تبقى لمن يسيطر على الأرض ومنابع الثروة.
كذلك، كانت هناك محاولات لإيجاد آلية جديدة لقيادة المسار الانتخابي خلال المرحلة القادمة، بدلا من القاعدة الدستورية التي فشل مجلسا النواب والدولة في التوصل إليها بسبب ديمومة الخلاف على بعض شروط الترشح للسباق الرئاسي، وكان واضحا أن واشنطن ولندن وبرلين وباريس هي التي تضغط على المنفي ونائبيه، لكن الأمر لن يكون بهذه السهولة، وإنما قد يؤدي إلى تكريس وضعية الانقسام الحالي والمرور بها إلى انقسام أعمق، خصوصا إذا عمدت الآلية المقترحة إلى إقصاء الجنرال حفتر من طموحه إلى خوض المنافسة على منصب الرئيس، كما أن كل المؤشرات تؤكد أن أي محاولة لإقصاء سيف الإسلام القذافي قد تعقّد الوضع بشكل غير مسبوق، خصوصا وأن نسبة مهمة من الفاعلين في مراكز القرار الحكومي والأمني والعسكري والاجتماعي هم من أنصاره، وقد تم إدماجهم في الحوار الوطني على أساس حقهم في المنافسة على الحكم في إطار ديمقراطي تعددي.
عندما جاء المبعوث الأممي الجديد عبدالله باتيلي إلى منصبه، كان يحمل تصورا مهما لحل الأزمة ينطلق من خصوصية انتمائه الأفريقي، فالأفارقة يعتبرون أنفسهم الأكثر فهما للوضع في البلد الواقع في شمال القارة، والأقدر على تجاوز الصراع وتحقيق المصالحة الوطنية شريطة أن يكف الغرب عن التدخل السافر. ومنذ سنوات كان الاتحاد الأفريقي ينتظر فرصة إدارة حوار ليبي لا يقصي أي طرف، خاصة رموز النظام السابق، وهو يعمل حاليا من خلال اللجنة الفرعية رفيعة المستوى على تنظيم اجتماع تمهيدي لمؤتمر المصالحة في الكونغو برازافيل برعاية رئيسها دينيس ساسو نغيسو، وقد توصل عدد من الفاعلين الأفارقة إلى ضرورة تأجيل الحسم في مسألة الانتخابات إلى حين تحقيق توافق وطني شامل، لكن سلطات طرابلس لا تدعم ذلك، والدبيبة وشركاؤه غير ميالين إلى مصالحة قد تفرض خياراتها المختلفة على ملامح الحكم وتوازنات السلطة في المرحلة القادمة، كما أن أطرافا خارجية، وغربية بالأساس، لا ترى مانعا من إرساء نظام دكتاتوري في ليبيا إذا كان البديل نظاما يذكرها بنظام القذافي أو يمنعها من السيطرة المطلقة على القرار السياسي والاقتصادي في البلاد.
منذ أيام، دعا المجلس الرئاسي باقتراح من واشنطن إلى اجتماع في مدينة غدامس يوم 11 يناير الجاري يكون فيه ثالث اثنين، مجلس النواب ومجلس الدولة، بهدف العمل على إيجاد قاعدة دستورية، لكن الأمر لن يستقيم لأسباب عدة، منها أولا، أن المنفي غير قادر من الأساس ولا هو جاهز حاليا لفرض خياراته على عقيلة صالح وخالد المشري اللذين قد يكونان بصدد البحث عن إطار آخر لإعلان توافقهما، ولا يبدوان مستعدين لمنح الرئاسي شرف الادعاء بأنه صاحب الدور الأهم في التوفيق بينهما. وثانيا، أن أي اتفاق بين صالح والمشري سيستهدف حكومة الدبيبة بالإعلان عن تشكيل حكومة جديدة، وهو ما لا يجرؤ عليه الرئاسي ولا توافق عليه واشنطن ولندن الميّالتان إلى الإبقاء على سلطة الأمر الواقع في طرابلس. وثالثا، أن مجلس النواب لا يمكنه أن يتحرك بمعزل عن التوازنات السياسية والاجتماعية وعن الدور المحوري لقيادة الجيش في المنطقة الشرقية، وبالتالي فإن خياراته ستبقى مرتبطة بمسار المصالحة وتوحيد المؤسسة العسكرية، وهو ما يرضي مجلس الدولة الذي قادته الصدفة وحدها إلى السلطة ومنحت أعضاءه امتيازات مهمة منذ سبع سنوات.
كما أن ما يدور في طرابلس والمنطقة الغربية يشير علنا وبوضوح إلى أن التيار الذي يتصدره الدبيبة لن يتخلى عن السلطة مهما كانت الظروف، ولن يسمح بتنظيم الانتخابات إلا إذا كانت له ضمانات بأنه سينتصر فيها أو سيستمر في الحكم بعدها، وهو ما يستفيد منه المجلس الرئاسي باعتباره تابعا لخيار الحكومة المنتهية ولايتها، منذ أن وصل إلى موقعه حاليا على صهوة الخطط التي أعدها الدبيبة وموّلها بعطاءاته المجزية في اجتماعات ملتقى الحوار.