الرقصة الأخيرة لتركيا على نغمات أردوغان
رفيق خوري
حرب أوكرانيا أغلقت أبواباً بمقدار ما فتحت أبواباً في العلاقات الدولية. أحد الأبواب المفتوحة كان فرصة لدور تركي من النوع الذي يستهوي الرئيس رجب طيب أردوغان: الوساطة بين روسيا وأوكرانيا لإنهاء الحرب. رعاية المفاوضات بين الطرفين على الأرض التركية على مستوى الوفود، ثم المستوى الوزاري، والاستعداد المستمر لاستضافة قمة تجمع الرئيسين فلاديمير بوتين وفولوديمير زيلينسكي، لكن هذا ليس كل الدور الصعب الذي يلعبه أردوغان من موقع الصديق الذي ليس في موقف محايد تماماً بين الدولتين. فهو يرفض الاعتراف بضم روسيا شبه جزيرة القرم وفصل الدونباس عن أوكرانيا. وهو يزود كييف بطائرات “بيرقدار” المسيّرة التي يستورد محركاتها من هناك وتلعب دوراً في الحرب ضد القوات الروسية الغازية، فيغضب موسكو التي استرضاها قبلاً بشراء صواريخ “أس400” فأغضب الغرب، فضلاً عن أنه يعرف مدى حاجة روسيا إلى تركيا، وبالعكس، ليس في الإطار التجاري والاستثماري والسياحي فحسب، بل في الإطار الجيوسياسي أيضاً. كيف؟ المشروع الأوراسي المقابل للحلم الأوروبي، والمشروع الأطلسي يحتاج إلى تركيا بشدة، وإلا بقي متعثراً وناقصاً، وتركيا المتمسكة بعضويتها في “الناتو” تناور وتغازل الأوراسية من دون التخلي عن الأطلسية.
ولا شيء يوقف الرئيس التركي عن الاندفاع في الاتجاه الذي يناسبه في مرحلة ما سوى الاصطدام بالجدار. وما أكثر الجدران التي اصطدم بها والاندفاعات التي تراجع عنها. وفي كل الأحوال، بقيت تركيا ترقص على نغمات أردوغان. رقصت على نغمة القصيدة القديمة التي رددها وفيها “الجوامع ثكناتنا، المآذن حرابنا، والمؤمنون جنودنا”، فأخرجته من السجن إلى السلطة. رقصت على نغمة الدق على الباب الأوروبي والقول إن تركيا “أكثر دولة شرقية في الغرب، وغربية في الشرق”. رقصت على نغمة “صفر مشاكل” مع الجميع، والتي كانت من تلحين أحمد داوود أوغلو، ونغمة النمو الاقتصادي على يد باباجان، ونغمة الاعتدال مع عبد الله غول قبل أن يختلف هؤلاء وسواهم مع أردوغان ويخرجوا من السلطة كما من حزب “العدالة والتنمية” الذي شاركوا في تأسيسه. رقصت على نغمة المشاكل مع الجميع: مع الاتحاد الأوروبي، مع ألمانيا بشكل خاص، مع الولايات المتحدة، مع السعودية ومصر وإسرائيل والعراق وسوريا. ورقصت على نغمة المصالحة مع كل هؤلاء بسبب حاجة تركيا إلى الاستثمارات، بحيث عاد أردوغان إلى الحديث عن العلاقات الجيدة مع الإمارات بعد اتهامها بتمويل محاولة الانقلاب الفاشلة، ومع السعودية بعد كل ما لعب بقميص جمال خاشقجي، ومع إسرائيل ومصر وأوروبا وأميركا. دائرة كاملة من التبدل والعودة إلى نقطة البداية.
لكن الشعب التركي يبدو اليوم كأنه تعب من الرقص المتناقض مع أردوغان. فالاقتصاد في تراجع. والديمقراطية في متاعب. والعلمانية في خطر. والتنقل بدور تركيا من “جسر” إلى “مركز”، وبالعكس، ومما سماه داوود أوغلو “دولة جناح” إلى “دولة محور”، وبالعكس، ليس لعبة مأمونة. “مئوية الجمهورية” عام 2023 مرشحة لأن تكون نهاية الرئاسة الطويلة لأردوغان، إذ تشير استطلاعات الرأي إلى أن المعارضة ستربح الانتخابات الرئاسية. وليس من السهل نزع أتاتورك من ذاكرة تركيا، وهو مؤسس الجمهورية ومنقذها بعد أن “انتزع النصر من بين أنياب الفشل” العثماني في الحرب العالمية الأولى. ولا العودة إلى البعيد بالتركيز مع أردوغان على “ألفية” السلجوقي ألب إرسلان عام 2071 الذي هزم جيش بيزنطية في معركة “ملاذكرب” عام 1071، قبل أن يأتي أرطغرل وتبدأ السلطنة العثمانية.
قبل قرنين أصبحت السلطنة “رجل أوروبا المريض”. اليوم، يقول توماس كابلان وبرنار هنري – ليفي، إن تركيا “سبب أمراض أوروبا”، لكن أردوغان يعود إلى النغمات القديمة على أمل أن يرقص الشرق الأوسط والعالم عليها وسط تعب الأتراك. والفرص المفتوحة في حرب أوكرانيا مرشحة لأن تصبح أخطاراً بمقدار ما يمكن أن تتحول الأخطار إلى فرص. ولا شيء يوحي بأن أردوغان تعلم الدرس الذي تحدث عنه وزير الخارجية المصرية سابقاً نبيل فهمي في كتاب جديد وهو “سوء التفاهم في العلاقات مع الدول الكبرى أخطر من وجود خلافات”.