السودان.. جيش الخراب الذي آن الأوان لحله
لم يقدم عسكريو السودان إلا البلاء لبلادهم منذ استقلالها حتى الآن. المعركة الراهنة بين الجيش بقيادة عبدالفتاح البرهان وبين “قوات الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان دقلو، ليست سوى تتمة للدور التخريبي للقوات المسلحة السودانية، بمختلف فروعها وأصنافها، على امتداد عمر الاستقلال. وهو الأمر الذي يبرر الاعتقاد بأن السودان لن يعرف استقرارا حقيقيا قبل أن يتم حلها وإعادة بناء الجيش على عقيدة عسكرية مختلفة.
كائنا ما كان السبب الذي يقف وراء اندلاع الحرب الراهنة بين طرفي القوات المسلحة، فإن أصولها هي ذاتها الأصول التي وفرت المبررات لتنفيذ دزينة من الانقلابات العسكرية، تارة ضد حكومات مدنية، وتارة ضد حكومات عسكريين آخرين. وهي تعني أن قادة القوات المسلحة في السودان لا ينظرون إلى أنفسهم كعسكريين يؤدون دورا دفاعيا محددا، وإنما كقادة للدولة والمجتمع. وهم قد يفشلون في أداء واجباتهم العسكرية، إلا أن تطلعاتهم السياسية تظل هي الأقوى دائما. والفشل لم يقتصر على خوض حروب أهلية اتسمت بالرعونة والانتهاكات، ولكنها دفعت إلى تمزيق البلاد أيضا. وهذا التمزيق لا يشمل انفصال جنوب السودان وحده، ولكنه يشمل أيضا التفكك القائم حتى الآن بين مختلف أقاليم البلاد، وهو ما وقف وراء ظهور حركات تمرد مسلحة في دارفور وولاية النيل الأزرق وغيرهما.
الحرب الأهلية الأولى بدأت في عام 1955 واستمرت حوالي 27 عاما، وانتهت بمعاهدة السلام في عام 1972، قبل أن تبدأ حرب أهلية ثانية في عام 1983، انتهت بانفصال جنوب السودان وتوقيع اتفاق سلام في العام 2005.
أما الحرب الأهلية في دارفور فقد اندلعت في فبراير 2003 عندما بدأت مجموعتان متمردتان هما حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة بقتال حكومة الخرطوم ردا على أعمال التمييز والانتهاكات التي كانت تمارسها القوات المسلحة الرسمية وميليشيات الجنجويد، والتي نشأت منها قوات “الدعم السريع” بقيادة دقلو. ورغم أن حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة قد انضمتا إلى اتفاقية سلام دارفور في مايو 2006، إلا أن أعمال القتال لم تتوقف فعليا إلا بعد سقوط نظام المشير عمر حسن البشير في أبريل 2019.
أما الحرب الأهلية في ولاية النيل الأزرق التي اندلعت في العام 2011 بين قوات الجيش السوداني والجيش الشعبي لتحرير السودان فهي الأخرى ظلت قائمة لنحو عقد من الزمن، قبل أن ينخرط الجيش الشعبي لتحرير السودان في العملية السياسية التي أعقبت سقوط سلطة البشير.
هذه الحروب، إنما كانت في الواقع حروب جرائم وانتهاكات، هي التي لا تزال المحكمة الجنائية الدولية تجري تحقيقات بشأنها حتى الآن. ولئن أمكن توجيه اتهامات لعدد محدود من المسؤولين السياسيين والعسكريين السابقين، ومنهم البشير نفسه، إلا أن قادة القوات المسلحة ظلوا في منأى عن المحاسبة، رغم أن تلك الجرائم كانت تنفذ بأيدهم هم. وفوق كل ذلك، فقد ظلوا يتصرفون وكأنهم جديرون بقيادة الدولة، لا تعرف على أي أساس. ولا تعرف ما هو المعنى الذي يبرر لهم هذا الاعتقاد.
غياب التدقيق في الأسس التي دفعت القوات المسلحة السودانية إلى تنفيذ انقلابات وارتكاب جرائم، هو القاعدة التي تستند إليها الحاجة إلى حل الجيش وكل التكوينات المسلحة الأخرى. وذلك لأجل وضع أسس لعقيدة عسكرية جديدة تقتلع الاعتقاد بين القادة العسكريين في البلاد بأنهم جديرون بقيادة الدولة والمجتمع.
في العام 1957 قاد إسماعيل كبيدة مجموعة من الضباط للانقلاب على أول حكومة وطنية ديمقراطية بعد الاستقلال برئاسة إسماعيل الأزهري. المحاولة فشلت إلا أنها كشفت، وكل ما بعدها من انقلابات، عن طبيعة الجيش نفسه، كتنظيم مافياوي، بلا ضمير.
وفي أكتوبر 1958 قاد الفريق إبراهيم عبود انقلابا ضد حكومة ديمقراطية تشكلت من ائتلاف بين حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي، وتم تشكيل حكومة عسكرية حكمت البلاد لسبع سنوات، وواجهت هي نفسها محاولة انقلابية قادها عسكريون آخرون.
وفي مايو 1969 قاد العميد جعفر نميري انقلابا حكم البلاد لـ16 عاما، وتعرضت حكومته، على غرار حكومة عبود إلى محاولات انقلابية عسكرية فاشلة، سحقها بالحديد والنار، ومنها محاولة الانقلاب التي قادها الضابط هاشم العطا في يوليو 1971. ومحاولة انقلاب حسن حسين في العام 1975، ومحاولة انقلاب العميد نور سعد في يوليو 1976. ولئن أطيح بنظام نميري بانتفاضة شعبية أدت إلى استعادة السلطة المدنية في 6 أبريل 1986، إلا أن الوقت لم يمض أبعد من ثلاث سنوات حتى نفذ الجنرال عمر حسن البشير انقلابا آخر. واجه بدوره محاولات انقلابية فاشلة ضده، من قبيل محاولة العام 1990 التي قادها اللواء عبدالقادر الكدرو واللواء الطيار محمد عثمان حامد، اللذان أعدما إلى جانب 26 ضابطا آخرين، قبل أن تليها محاولة أخرى قادها العقيد أحمد خالد في العام 1992، وأخرى في العام 2004 قادها عشرة ضباط. وقيل إنهم كانوا على صلة بحزب المؤتمر الشعبي المعارض بقيادة حسن الترابي.
وعلى الرغم من أنه كان رئيسا لمجلس السيادة الانتقالي، فقد نفذ الفريق أول عبدالفتاح البرهان انقلابا تجريبيا في سبتمبر 2021، أحبطه بنفسه، في مناورة تهديد مسبقة ضد الأطراف المدنية في المجلس، قبل أن ينفذ انقلابه الفعلي في 25 أكتوبر من ذلك العام، وألقى في السجن الوزراء المدنيين في حكومة عبدالله حمدوك، الذي بقي هو الآخر في الإقامة الجبرية.
إحدى أكبر الثغرات في التجربة السودانية لما بعد الاستقلال هي أن الأحزاب السياسية نفسها كانت تتورط من حين إلى آخر، في دعم هذا الانقلاب العسكري أو ذاك. ليس لبناء نظام ديمقراطي، وإنما لفرض أجنداتها الأيديولوجية الخاصة، قبل أن تكتشف أنها غذّت الوحش الذي سيظل ينقلب عليها لحسابه الخاص.
الكل الآن يدفع ثمن هذا التاريخ الأسود. بمن فيهم العسكريون أنفسهم.
لا يوجد سوداني واحد، إلا ويعرف أن الفريق أول عبدالفتاح البرهان، عندما فشل في قيادة الدولة، بعد انقلابه على حكومة حمدوك، عاد ليطلب أن تكون له السلطة العليا المطلقة على القوات المسلحة السودانية، وسعى إلى وضع قوات الدعم السريع تحت إمرته.
أراد أن يكون ممثل السلطة العسكرية الأوحد، التي حتى بعد انسحابها إلى الثكنات، تظل قادرة على التحكم بإدارة البلاد، من دون منافس، لاسيما وأن لدى الجيش مشاريع اقتصادية خاصة به، ومنها مناجم الذهب، وأعمال التهريب التي يستفيد منها ضباطه من قادة الوحدات في مختلف أطراف البلاد.
الحرب الراهنة هي حرب نفوذ ومصالح خاصة. الأمر الذي يؤكد حقيقة أن الجيش السوداني، وهو ينهب شعبا فقيرا ويستولي على موارده، ليس جيشا وطنيا، ولا بأي معنى من المعاني. إنه أقرب إلى منظمة مافيا منه إلى جيش. وهذا جانب آخر يؤكد الحاجة ذاتها على أن حل الجيش وكل التشكيلات العسكرية الأخرى هو السبيل الوحيد الصحيح لتجنب وقوع البلاد ضحية منظمة جريمة تمتلك الاستعداد لعمل أي شيء، بما في ذلك الاستيلاء على السلطة، لرعاية مصالحها.
لقد أدى عسكريو السودان دورا تخريبيا لا يضاهيه أي تخريب آخر. فهم لم يكتفوا بتمزيق البلاد، ولكن أفقروها ودمروا اقتصادها، وحولوها إلى مستنقع فساد وشلل، حتى عجزت عن إطعام نفسها، هي التي لا يزال بوسع أراضيها أن تطعم قارة بكاملها، وهي التي لا يزال بوسع ثرواتها أن توفر لشعبها حدا معقولا من الرفاهية والازدهار.
وكأي عسكريين آخرين، فإنهم جهلة في كل شأن لا يتعلق بما يتلقونه من معارف في الكليات العسكرية. أي أنهم جهلة في كل ما يتعلق بشؤون الإدارة المدنية والاقتصاد والتنمية الاجتماعية والصحة والتعليم والخدمات الأخرى. ولا تعرف بأي حق، أو على أي أساس، يتم السماح لهم بمجرد التفكير بأنهم قادرون على كل شيء.
سجلهم الانقلابي الذي بدأ منذ العام 1957 ولم يتوقف حتى الآن يقول إنهم أكبر المسؤولين عما أحاق بالسودان من الفقر والتخلف حتى بلغ الإفلاس. 65 عاما من عمر البلاد تم تبديدها بعسكريين لا يضعون على أكتافهم إلا نياشين الجهل والغطرسة. وهم يمتلكون، فوق ذلك، ليس سلطة الأذى وحدها، وإنما سلطة الخراب أيضا.