السياسة والإنسانية
يقولون إن السياسة هي “فن الممكن” ومجال التوافق والحلول الوسط، حتى أنصاف الحلول أحيانا تمهيدا لحلول كاملة فيما بعد.
لذا تحتمل السياسة المناورة وأنصاف الحقائق أحيانا، بل حتى ما هو أكثر مما توصف بأنها “انتهازية سياسية” تبرر غايات يرى أصحابها أنها تستحق التضحية ببعض المبادئ والأصول لتحقيق غرض “أسمى” حسب ما يرى البعض.
أما الإنسانية فليس فيها “نصف حمل”، إما حامل أو لا. أن تكون إنسانا أو لا تكون. أما مسألة من نصفه إنسان ونصفه وحش هذه فخرافات لا توجد إلا في الأساطير القديمة.
في الأزمات والمحن الكبرى التي تواجه البشرية لا مجال للسياسة إنما الأهم هو الإنسانية. ولأن الكوارث الطبيعية التي تضرب دولا وشعوبا وأحيانا العالم كله لا تختلف عن الأزمات العميقة التي تواجه البشر الأفراد مثل الغربة أو السجن، فهي تبرز في تجل واضح أنبل ما في الإنسان كما تظهر أيضا أسوأ ما فيه.
تلك الزلازل التي ضربت تركيا وسوريا، وشعر بها الملايين في دول تحيط بهما، واحدة من تلك الكوارث التي تحتاج الإنسانية وليس السياسة في مواجهتها. كما أنها، مثل غيرها من الأزمات حتى الأقل خطرا، تظهر البشر على حقيقتهم – ليس كأفراد فحسب بل كدول وتجمعات.
من أول الدول التي كان رد فعلها سريعا، ودون أي حساب للسياسة وإنما على أساس إنساني صرف دولة الإمارات – وهي هكذا تفعل في أي موقف مماثل بغض النظر عن البلد المتضرر أو جنس ولون وعرق البشر المتضررين. من أغنى البلدان كأميركا إلى أصغر الدول في أفريقيا إلى أفقرها في آسيا، ما إن يحدث ما يتطلب الفعل الإنساني المجرد تجد الغوث والمساعدة الإماراتية في المقدمة ودون من أو أذى.
في المقابل تماما كان موقف الولايات المتحدة وبعض تابعيها من كارثة الزلزال، إذ قدمت عونا على استحياء لتركيا وتجاهلت سوريا لاعتبارات سياسية. وما كان تصرفها إلا ردا على تصرف الصين وروسيا. فقد سارعت الصين أيضا للمساعدة، كما تفعل دوما في السنوات الأخيرة. حتى وإن كان الغرب يتهمها بالسعي نحو استمالة الشعوب التي تساعدها، لكن على الأقل هي لا تفاضل في مساعداتها لاعتبارات سياسية إنما تتصرف على أساس إنساني أكثر.
ربما كانت أكثر الدول العربية، بعد الإمارات، التي سارعت لتقديم العون والمساعدة وسبل الإغاثة لمن يحتاجونه أكثر وهو شعب سوريا العراق والجزائر. وفعلت الأخيرة ذلك أيضا دون طنطنة أو تفاخر، وتلك إنسانية واضحة حتى لو اتهمها البعض بأنها الوحيدة عربيا التي لم تقاطع سوريا إبان الحرب فيها. لكن أتصور أن ذلك أيضا موقف إنساني أكثر منه سياسي، بالضبط كما فعلت سلطنة عمان في نهاية سبعينيات القرن الماضي حين قاطعت الدول العربية مصر بعد زيارة السادات للقدس وبقيت مسقط الوحيدة التي لم تقاطع.
تلك المواقف الإنسانية، من الإمارات والجزائر والعراق ومصر والأردن وغيرها، لا تستند إلى أن شعبي سوريا شعب عربي أو أنه وشعب تركيا شعوب مسلمة فحسب، بل تستند إلى مأ أسلفنا – الإنسانية. تلك الصفة التي تعلو فوق السياسة ودون أي اعتبار لعوامل السياسة. تلك الصفة لا تغيب أيضا عن شعوب كثيرة حول العالم، بما فيها شعوب غربية تتخذ حكومات دولها أحيانا مواقف أبعد ما تكون عن الإنسانية من أزمات وكوارث الآخرين. لكن لا شك أيضا أن مواقف الدول والحكومات تصبغ سلوك شعوبها، أو تعكسه أيضا.
قد يرى البعض في تصرفات متطرفة في اللاإنسانية إلى حد العنصرية مواقف “منعزلة”، لكن تكرار التعبير عن ذلك في أزمات متتالية يظهر انقساما إنسانيا واضحا في العالم، خاصة بين الشرق والغرب. ولعلنا لم نكد ننسى بعد ما حدث في عز أزمة كورونا قبل نحو ثلاث سنوات. فقد كانت الإمارات والصين سباقة في تقديم كل ما تستطيع لكل الدول والشعوب التي تحتاج وسائل الوقاية من انتشار العدوى والتقنيات الحديثة المتاحة للتصدي للوباء الذي ضرب البشرية جمعاء. في ذلك الوقت كانت بعض الدول في أوروبا وأميركا الشمالية “تسرق” مستلزمات صحية موجهة لغيرها. ولعل صرخات الايطاليين والصرب وقتها من استيلاء بولندا وغيرها على تبرعات صحية لهما من الصين ما زالت في الأذهان.
وحين وقعت الحرب في أوكرانيا، وهو حدث ما زال حيا ولم تمض على بدايته شهور، كانت عفوية مراسلي الشبكات الغربية وهم يتحدثون عن الأوكرانيين عنصرية واضحة. ولم نكد ننسى قولهم “انظروا، إنهم بيض مثلنا، ليسوا من الشرق الأوسط”!! لم تكن زلة لسان، وإنما انفلات قناعات تخفيها أحيانا قيود الخوف من القانون وتظهرها بعفوية الأزمات والمحن الكبرى. ولعل أكثر مثال مشابه هو ذلك الرسم الكاريكاتوري للمجلة الفرنسية “تشارلي إبدو” الذي سخر من ضحايا الزلازل بعنصرية فجة لا علاقة لها بحرية رأي ولا ابداع.
تتجاوز هذه السلوكيات اللاإنسانية حتى السياسة في انتهازيتها، وتتجلى في أبشع صورها في الأزمات والكوارث والمحن البشرية الكبرى. لكنها طبعا موجودة، وليس لدى الغرب فحسب، بل ربما لدى شعوب الشرق أيضا وإن بدرجات مختلفة.