الصراع مع إسرائيل في معادلاته المتحوّلة
بعد 1948 خيضَ الصراع العربيّ مع إسرائيل بأفق قوميّ فكراً وحساسيّة. وكانت شهيرة عبارة ساطع الحصري التي ردّ بها على القائلين إنّ إسرائيل هزمت سبعة جيوش عربيّة عامذاك. فقد رأى المثقّف القوميّ الراحل أنّ سبب الهزيمة هو بالضبط وجود سبعة جيوش عربيّة بدل أن يكون جيش واحد. ولسنوات والقوميّون العرب يساجلون في ما إذا كانت الوحدة العربيّة طريقاً إلى تحرير فلسطين أم العكس، فيما شغلت قضيّة فلسطين و»خيانتها» الجزء الأعرض من مهاترات الناصريّين والبعثيّين في الستينات.
وبسبب تحالف الأنظمة القوميّة العسكريّة مع الاتّحاد السوفياتيّ، وقولها باشتراكيّةٍ ما، أعطي الأفق الاجتماعيّ بفكره وحساسيّته موقعاً منضبطاً على هامش الأفق القوميّ. هكذا، وخصوصاً منذ هزيمة 1967، تعاظم التوكيد على أنّ المعركة مع إسرائيل معركة مع «الإمبرياليّة الأميركيّة» و»الرجعيّة العربيّة» الموصوفة بالتبعيّة لها. كذلك راحت التنظيمات الفلسطينيّة المسلّحة تتنافس على «تمثيل الطبقة العاملة»، وتنشقّ واحدتها عن الأخرى التي يُشكّ بمدى تمثيلها المزعوم هذا.
أمّا اليوم فبات الصراع مع إسرائيل محكوماً بأفقين آخرين مختلفين تماماً. فهناك التوكيد الإسلاميّ الذي يعبّر عنه الموقع القياديّ لـ»حركة حماس» وإلى جانبها «حركة الجهاد الإسلاميّ»، وهذا فضلاً عن الحلفاء والداعمين، من إيران الخمينيّة و»حزب الله» اللبنانيّ إلى «أنصار الله» الحوثيّين في اليمن والتنظيمات الشيعيّة في العراق.
كذلك يُستدلّ على هذه الغلبة في وقائع وإشارات أخرى عديدة، من مركزيّة المسجد الأقصى في اللغة التعبويّة إلى شيوع المصطلحات الدينيّة واستلهام معارك التاريخ الإسلاميّ، ومن الإلماح إلى «إخوانيّةٍ» ما يرى البعض براهينها في تاريخ «حماس» نفسها، كما في مواقف متفرّقة تهبّ من تركيّا وسواها، إلى الحضور الإسلاميّ القويّ في حركات التضامن في الغرب أو التعبئة الإعلاميّة التي ترمز إليها قناة «الجزيرة»…
لكنْ كما أقام الهامش الاجتماعيّ في جوار المتن القوميّ سابقاً، يقيم اليوم على هامش المتن الإسلاميّ أفق كونيّ، ضميريّ وأخلاقيّ وقانونيّ في آن معاً، تستفزّه وحشيّة السلوك الإباديّ لإسرائيل ومدى إفلات الدولة العبريّة من العقاب، فضلاً عن الدعم العسكريّ والماديّ الذي توفّره لها الدول الغربيّة وخصوصاً أميركا.
وهنا يمكن أن نلاحظ حركة استئصال للمرحلة السابقة. فالإسلاميّة الإخوانيّة، كما نعلم، لم تكره شيئاً كما كرهت جمال عبد الناصر وحزب البعث، ولم يضطهدها أحد كما اضطهداها. والحال أنّ مصطلح «عربيّ» يكاد يكون غائباً تماماً، إن عن الرواية التي تصف الصراع وتعلّق عليه أو عن الأحداث والمجريات التي تترتّب عنه. وكما يسحقُ الإسلاميُّ القوميَّ، فإنّ الكونيّ الضميريّ يسحق الاجتماعيّ. ذاك أنّ طلاّب جامعات النخبة في الولايات المتّحدة آخر من يشبه أهل الفقر والمعاناة، إن في غزّة أو في أيّ مكان آخر. أمّا حلول بيلاّ حديد وكايت بلانشيت محلّ البروليتاريا وماو وغيفارا، أو حلول «حقوق الإنسان» و»قيم العدالة» محلّ «حرب الشعب طويلة الأمد»، فهي كلّها تحضّ على التأمّل في ما قد يكون تآكلاً لوضوح البُعد الاجتماعيّ في صراعات عالمنا. وما يعزّز الشكوك أنّ المآسي العالميّة الكبرى التي يصعب إدراجها في ما يُسمّى «حرب القبائل» داخل الولايات المتّحدة، لا تحظى بالتفات الوعي الضميريّ وحامليه.
أمران آخران مُقلقان يحضّ عليهما التفكير في تلك التغيّرات التي نادراً ما تسترعي انتباهنا: أوّلهما، أنّ عدم التجانس داخل الثنائيّة الإسلاميّة – الكونيّة أكبر من مثيله داخل الثنائيّة القوميّة – الاجتماعيّة السابقة. لكنْ إذا كان ضغط الاتّحاد السوفياتيّ قد حافظ على الثنائيّة الأخيرة، فليس هناك من يضغط للحفاظ على الوحدة بين أقصى الراديكاليّة والطليعيّة في أمور الجنس والجندر وبين إسلاميّة تسترشد بالسلف الصالح والفتوى. وأغلب الظنّ أنّ قناة «الجزيرة» الإنكليزيّة لا تستطيع ذلك، هي التي بمخاطبتها «المتعاطفين الغربيّين» تقول ما لا تقوله شقيقتها العربيّة.
أمّا الثاني فقابليّة القضيّة الفلسطينيّة للاستخدام، مرّةً بحسن نيّة ومرّاتٍ بسوئها. ففي وسع القوميّ والاجتماعيّ والإسلاميّ والأخلاقيّ وغير الأخلاقيّ أن تصبّ هناك مُقلّدةً غيمة هارون الرشيد. لكنّ هذا لا يضمن السيطرة على السحابة المثقلة بالمطر، إذ خِراجُها قد يصبّ، هذه المرّة، في أمكنة يصعب توقّعها.
والراهن أنّ منظّمة التحرير الفلسطينيّة، رغم أخطائها وخطاياها الهائلة، تنبّهت مبكراً إلى تغليب الأفق الوطنيّ الفلسطينيّ على سواه، وذلك وسط انتقادات العقائديّين، آنذاك والآن، لبراغماتيّتها ولضعفها الإيديولوجيّ. فهي لم تكن قوميّة عربيّة أو اشتراكيّة أو إسلاميّة أو «حركة اجتماعيّة»، رغم محاولتها الاستفادة من تلك التيّارات، والأهمّ أنّها بذلت جهوداً كبرى، وإن لم تنجح فيها دائماً، كي لا تكون سوريّة أو عراقيّة أو إيرانيّة… وهكذا فحين تعترف اليوم بعض الدول بدولة فلسطين، فإنّها تكون تعترف بتلك الوطنيّة حصراً، وبحقّها في أن تتمتّع بدولة.