الصين وتايوان.. صراع سياسي وتعاون اقتصادي
حميد الكفائي
قد يتوهم من يتابع الأخبار المتعلقة بالصين وتايوان هذه الأيام، ويرى المناورات العسكرية الصينية حول الجزيرة، ويسمع الخطاب الصيني الناري المناهض للولايات المتحدة وتايوان، بأن البلدين عدوان لدودان وأن حربا طاحنة توشك أن تندلع بينهما، وأن العالم سينقسم حولها، بين مؤيد ومناهض، لكن الحقيقة غير متطابقة مع ظاهر الأمور.
يوجد دون شك صراع مبدئي وسياسي حقيقي بين جمهورية الصين الشعبية، وجمهورية الصين الوطنية (تايوان)، وهذا الصراع بدأ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، واندلاع الحرب الأهلية في الصين، التي انتصر فيها الحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماو زيدونغ، واستولى على السلطة في البر الصيني، وأقام حكومته في بكين عام 1949، بينما فر الحزب القومي الصيني الحاكم (كومنتانغ)، ومليون من أنصاره، إلى جزيرة تايوان، وجعل منها معقلا للمناهضين للنظام الشيوعي الجديد، ونقل حكومته من بكين إلى تايبيه، منتظرا العودة إلى البر الصيني بعد إسقاط، أو سقوط، النظام الشيوعي.
لكن الحزب الشيوعي تمكن من توطيد حكمه، متكيفا مع الأوضاع الدولية، وساعيا بقوة إلى ترسيخ أسس النظام السياسي خلال فترة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، منفتحا اقتصاديا على العالم الحر أواخر السبعينيات، لتبدأ نهضة الصين الحديثة بسرعة مذهلة، حتى صارت القوة الثانية اقتصاديا وعسكريا في العالم، بل هي تسعى نحو بلوغ المرتبة الأولى عالميا.
أما (كومنتانغ)، فبقي متمترسا في تايوان، مصرا أن حكومته تمثل الحكومة الشرعية للأمة الصينية، محتفظا بعضوية الصين في الأمم المتحدة، وشاغلا مقعدها في مجلس الأمن الدولي، حتى عام 1971، عندما اقتنعت معظم دول العالم الرئيسية بأن من الخطأ المضي في الاعتراف بتايوان، وكان عدد سكانها حينذاك لا يتجاوز الثمانية ملايين، ولا تشكل سوى 2 بالمئة من الشعب الصيني، واعتبارها تمثل الأمة الصينية الكبيرة، على حساب جمهورية الصين الشعبية، التي تمثل 98 بالمئة من الصينيين وعدد سكانها يتجاوز 500 مليون نسمة.
وفي عام 1971، اقتنعت الأمم المتحدة بضرورة الاعتراف بالصين الشعبية، فسمحت لها بشغل مقعد الصين في مجلس الأمن الدولي، بموافقة الولايات المتحدة، التي أخطأت على ما يبدو، في تقدير موقف الصين من تايوان. عضوية الصين الشعبية في مجلس الأمن تعني أن موافقتها مطلوبة لقبول تايوان عضوا في الأمم المتحدة، وكان وزير الخارجية الأميركية آنذاك، وليام روجرز، يأمل أن تقود الموافقة الأميركية على دخول الصين إلى مجلس الأمن الدولي، إلى سماحها بعضوية تايوان في الأمم المتحدة، لكن ذلك لم يحصل.
كانت الولايات المتحدة تسعى جاهدة لكسب الصين إلى جانبها وإقامة علاقات طيبة معها، وإبعادها عن الاتحاد السوفيتي، الإمبراطورية الشيوعية الأقوى والأكثر خطرا على العالم الغربي حينها. وقد تمكنت فعلا من إقامة علاقات مثمرة مع الصين في العام التالي، 1972، عندما أقدم الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، على زيارة الصين والتأسيس لعلاقة طويلة الأمد، تقوم على أساس وحدة الأراضي الصينية، أي الاعتراف ضمنيا بأن تايوان جزء من الصين.
وقد جاء الاعتراف الدولي بالصين الشعبية على حساب تايوان، التي خرجت من الأمم المتحدة، وأخذت دول العالم تسحب اعترافها بها، ولم يبقَ الآن سوى 13 دولة تعترف بتايوان وتقيم علاقات دبلوماسية معها، ومعظم هذه الدول صغيرة، وهي بيليز، وبالاو، وناورو، وهاييتي، وغواتيمالا، وباراغواي، وهندوراس، وجزر مارشالز، وسان كيتس ونفيلز، وسان لوسيا، وسان فينسنت وغرينانديز، وتافالو وأخيرا جمهورية الفاتيكان، التي هي دولة معنوية وليست فعلية. وما ساعد على عزلة تايوان الرسمية هو اشتراط الصين على الدول التي ترغب في إقامة علاقات معها ألا تقيم علاقات رسمية مع تايوان.
لم تقم الولايات المتحدة علاقات دبلوماسية مع الصين الشعبية حتى عام 1979، في عهد الرئيس جيمي كارتر، على الرغم من أن الرئيس ريتشارد نيكسون هو الذي فتح الباب للعلاقة الأميركية الصينية بزيارته التاريخية، التي تعهد فيها باتباع سياسة “الصين الواحدة”. واضطرت واشنطن لأن تقطع علاقاتها الدبلوماسية الرسمية مع تايوان في العام الذي اعترفت به بالصين الشعبية، امتثالا للرغبة الصينية، لكنها سنَّت في العام نفسه “قانون العلاقات مع تايوان”، الذي وضع الأسس للعلاقة الجديدة مع الجزيرة، وضَمِن حمايتها عسكريا من أي خطر خارجي.
وبقيت العلاقة بين تايوان والبر الصيني متوترة رسميا، لكنها لم تنقطع، خصوصا العلاقات الثقافية والاقتصادية، بل استمرت وتوطدت بمرور السنين، إذ إن هناك إدراكا عند الطرفين بأنهما ينتميان إلى الأمة الصينية العظيمة، وأن توحدهما حتمي، وأنه سوف يحصل يوما، وإن كان متعذرا حاليا، فإن البديل هو التعاون الاقتصادي واستمرار التواصل الثقافي بينهما حتى تحين ساعة الوحدة.
لكن هذا الحلم آخذ في التلاشي بمرور الزمن، على ما يبدو، مع اتساع الافتراق الثقافي والاقتصادي والسياسي، خصوصا مع تنامي حدة الخطاب الصيني تجاه تايوان، الذي اتضح في ردة الفعل الرسمية على زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، لتايوان، من تطويق الجزيرة وتحليق 100 طائرة فوقها، إلى إطلاق الصواريخ عبرها لتقع في المياه اليابانية، وعبور السفن الحربية الخط الأوسط في مضيق تايوان.
وقد اعتبرت الولايات المتحدة وتايوان ردة الفعل الصينية استفزازية وغير مبررة. فلم تحتج الصين بهذه الشدة عندما زار رئيس مجلس النواب الأميركي الأسبق، نيوت غِنغرِش، تايوان عام 1997، ولا حتى على المكالمة الهاتفية بين الرئيس، دونالد ترامب، ورئيسة تايوان، ساي إنغ-وين، عام 2016. مع ذلك، فليس متوقعا أن تُقْدِم الصين على أكثر من الاحتجاج الحالي، رغم حدته وغرابته، فلديها الكثير ما يمكن أن تخسره بمزيد من التصعيد.
الاستثمارات التايوانية في الصين خلال العقود الثلاثة المنصرمة تقترب من 200 مليار دولار، والتبادل التجاري بينهما خلال عام 2020 وحده، بلغ 166 مليار دولار، وإن هناك 400 ألف تايواني يقيمون في الصين الشعبية بشكل دائم، لإدارة أعمالهم الصناعية والتجارية والخدمية، وأن هناك تايوانيين يؤيدون الوحدة مع الصين، وقد احتج بعضهم على زيارة بيلوسي، وهناك ملايين الصينيين يرفضون ضم تايوان بالقوة العسكرية، ويؤيدون بقاء الوضع الحالي بين البلدين، وهناك صينيون كثر يتوقون لنيل الحقوق والحريات التي يتمتع بها التايوانيون.
الصين الشعبية مستفيدة من التطور الصناعي والتقدم الاقتصادي الذي تحقق في تايوان، كما استفادت وتستفيد الآن من التقدم الذي بلغته هونكونغ، التي عادت إلى الصين بعد انتهاء فترة “الإيجار” عام 1997، التي استمرت 99 عاما، وفق الاتفاقية المعقودة بين الصين وبريطانيا، علما أن هونكونغ كانت مستعمرة بريطانية منذ عام 1841.
فإن قامت الصين باسترداد تايوان بالقوة، فإن ذلك سيقود إلى إيقاف مثل هذا التقدم، وسوف يتسبب في فقدان الجزيرة علاقاتها الاقتصادية والتجارية العالمية، وسوف يقضي على الحرية الاقتصادية والتجارية التي يتمتع بها سكانها، الذين تعتبرهم الصين مواطنين صينيين، مما يؤدي دون شك إلى تراجع اقتصادي وسياسي خطير في كلا البلدين، ومثل هذا التراجع لن يكون في مصلحة الصين.
إضافة إلى ذلك، فإن تايوان تتمتع بقبول واحترام دوليين، لما حققته من تقدم صناعي واقتصادي، واستقرار سياسي واجتماعي، وسياسة قائمة على العقلانية وخدمة مصالح شعبها والدول التي تتعامل معها. معظم دول العالم لا تعترف بتايوان رسميا، لكنها تتعامل معها اقتصاديا وتستورد منها المُوَصِّلات وأجهزة الكمبيوتر، فهي المُصنِّع الأول في العالم لهذه الأجهزة.
وتتمتع تايوان بفائض تجاري قارب 28 مليار دولار، بينما بلغت قيمة صادراتها في النصف الأول من عام 2022 فقط، 247 مليار دولار. ويذهب 40% من إجمالي صادرات تايوان إلى الصين، بينما تشكل الصادرات الصينية 20% من إجمالي واردات تايوان. ويعتمد اقتصاد تايوان على الخدمات بنسبة 60%، والصناعة بنسبة 36% والزراعة بـ 2%.
إن قامت الصين بضم تايوان بالقوة، وهذا لن يحصل في تقدير معظم الخبراء، فإنه سوف يربك اقتصادات دول عديدة تعتمد عليها، وأولاها الصين، وسوف يؤجج الاستياء العالمي منها، مما يؤثر سلبا على التعامل المستقبلي معها، كما يشير إلى أن الصين دولة لا تكترث للعلاقات الدولية، وهي مستعدة لإرباك الاقتصاد والأمن والاستقرار في منطقة جنوب شرقي آسيا، وهذا لن يكون في مصلحة الصين مطلقا، خصوصا وأنها أسست لسمعة جيدة في الرصانة السياسية والعقلانية في التعامل مع الدول الأخرى، آخذة بنظر الاعتبار المصالح قبل الاعتبارات الأخرى، وتسعى لأن تكون مؤثرة اقتصاديا في العالم، وخير دليل على ذلك، إطلاقها مبادرة “الطريق والحزام” عام 2013.
لهذه الأسباب وغيرها، لن تقدم الصين على ضم تايوان بالقوة، وهذا التحليل يهيمن على الحسابات الأميركية، ولهذا السبب أقدمت نانسي بيلوسي على المضي قدما في زيارتها إلى تايوان، على الرغم من أن إدارة الرئيس جو بايدن لم تكن راغبة بها حاليا، نظرا للظروف الدولية الحرجة، والجهود الأميركية الحثيثة لتحسين العلاقات مع الصين.
لا شك أن زيارة بيلوسي سوف تؤخر التحسن في العلاقات الأميركية الصينية، وتربكه لبعض الوقت، ولكن هناك أسبابا أميركية داخلية للزيارة، على ما يبدو، منها انتخابات الكونغرس في 8 نوفمبر المقبل، والديمقراطيون يحتاجون لأن يحققوا مكاسب فيها، ومثل هذا التحدي الأميركي للصين يناغم أهواء الناخبين الجمهوريين، مما يعني أنه يعزز من حظوظ الديمقراطيين على حساب الجمهوريين.
الغالبية الديمقراطية في كلا المجلسين، النواب والشيوخ، صغيرة جدا. في مجلس النواب، يوجد 224 نائبا ديمقراطيا، مقابل 213 نائبا جمهوريا، وفي مجلس الشيوخ يتفوق الجمهوريون، 50 مقعدا، على الديمقراطيين، 48 مقعدا، ولولا تحالف عضويْن مستقليْن مع الديمقراطيين، ومقعد نائبة الرئيس، كمالا هاريس، لصار الجمهوريون هم الغالبية في مجلس الشيوخ.
لذلك شعرت بيلوسي، خصوصا وأنها في نهاية حياتها السياسية، إذ ستتقاعد بعد شهرين، بأن عليها أن تحسِّن من حظوظ حزبها في هذه الانتخابات عبر إجراءات سريعة، ترفع ثقة الناخبين اليمينيين بالحزب الديمقراطي. والمعروف أن الرئيس السابق دونالد ترامب هو عرّاب الصراع مع الصين، وهو الذي فرض تعرفاتٍ جمركية عالية على الصادرات الصينية، لذلك فإن تحدي الصين، عبر زيارة رسمية لمسؤول ديمقراطي رفيع إلى تايوان، سوف يعزز الثقة الشعبية بسياسات الديمقراطيين، ويزيد شعبيتهم.