الصّين وحتميّة فكّ العقدة التايوانيّة عسكرياً
عبد الوهاب بدرخان
لا جدال في أن زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، لتايوان كانت لزوم ما لا يلزم، فمعظم مجتمع السياسة والإعلام في الولايات المتحدة اعتبرها غير ضرورية، خصوصاً في توقيتها، ولم تكن الإدارة تحبذها، بما فيها البنتاغون والاستخبارات، لكنها لم تكن قادرة على منعها إلا إذا بدت المخاطر الأمنية داهمة، وبعد إتمامها بقيت عاجزة عن انتقادها، لذا وجّهت الأنظار إلى ردّ الفعل الصيني “المبالغ فيه”.
في المرّة السابقة، خلال 2020، لدى زيارة مسؤول في الخارجية الأميركية لتايبه، كان الردّ مماثلاً عسكرياً لكن أقل حجماً وأقصر زمنياً. أما الإجراءات المرافقة، كالعقوبات على تايوان ومحاصرتها، فضلاً عن العقوبات على نانسي بيلوسي نفسها، وكذلك تعليق التواصل الأمني والمناخي مع أميركا، فأرادتها بكين عيّنة مما يمكن أن تذهب إليه إنْ عاودت واشنطن إرسال مبعوثين إلى تايوان. كانت الزيارة اختباراً للطرفين.
التدريبات البحرية والجويّة التي أجرتها الصين لأيام عدة، بالذخيرة الحيّة وبمشاركة 68 طائرة و13 سفينة حربية، أتاحت لبكين إرهاصاً آخر لغزو (حرب) لا يبدو وشيكاً، لكنه قد يغدو حتمياً، نظراً إلى تحجّر الأحقاد التاريخية والمفاهيم السياسية والسيادية على طرفي المضيق الذي يفصل بينهما. هذه المرّة جاءت بيلوسي لتكون الشخصية الأرفع مستوى التي تحطّ في تايبه، ولا شيء يمنع، في نظر بكين، من أن يكون الزائر التالي الرئيس الأميركي، ألم يقل جو بايدن في طوكيو (أيار ـ مايو الماضي) إن أميركا يمكن أن تدافع “عسكرياً” عن تايوان التي ارتبطت بها منذ نشأتها في 1949؟ ألم يُغضب الصين عندما اعتبر انتهاكاتها المتكررة للأجواء تمهيداً لغزو تايوان كما فعلت روسيا بالنسبة إلى أوكرانيا؟ صحيح أن واشنطن لا تعترف ولا تعتزم الاعتراف باستقلال هذه الجزيرة التي تسمّي نفسها “جمهورية الصين”، لكنها تفعل كل ما يشحذ الشعور القومي في تايوان وكل ما يمكن أن يجعل ذلك الاستقلال واقعاً قائماً، إما بالتسليح “لتتمكن من الدفاع عن نفسها” أو بالدعم الاستخباري والاقتصادي على رغم أن الصين هي الشريك الأول لتايوان.
استُفزّت الصين بالمقارنة بينها وبين روسيا، بين تايوان وأوكرانيا، لأنها لا ترى تشابهاً بين الحالين، إذ اعتبرت دائماً أن تايوان جزء من أراضيها وأنها متمردة وتسعى إلى الاستقلال أو الانفصال، مستعينةً خصوصاً بالولايات المتحدة وعلاقات تجارية متوسّعة عالمياً، أما أوكرانيا فهي دولة معترف باستقلالها منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وتعتقد الصين مثل دول كثيرة غيرها أن روسيا كانت محقّة حين استنكرت تقارب حلف شمال الأطلسي مع أوكرانيا، وحين شجّعت الشرق الأوكراني على الانفصال واسترجعت شبه جزيرة القرم (التي أهداها ستالين إلى أوكرانيا). وكان بايدن قد أطلق خلال جولته الآسيوية كل الرسائل الأميركية لثني بكين عن تقليد روسيا، ومع أنه أعلن “عدم توقّعه حصول غزو صيني لتايوان”، إلا أنه ذكّر بالعقوبات المفروضة على روسيا جرّاء غزو أوكرانيا، ليشير إلى “كلفة محاولة الاستيلاء على تايوان بالقوة”. وفي الأسابيع الأخيرة تكرّر التذكير بأن عقوبات أميركية وأوروبية مماثلة ستحرم الصين من أكبر الأسواق العالمية، وربما يكون تأثيرها أسوأ على حركتها التجارية والاستثمارية ومشاريعها المستقبلية.
لكن التهويل بالعقوبات لا يكفي لردع بكين، وتحديداً في القضية التي حددتها خطاً أحمرَ في تاريخها وفي علاقاتها الخارجية، وفقاً لمبدأ “الصين الواحدة” الذي لا تنقضه أي دولة في العالم، ولا حتى الولايات المتحدة أو بريطانيا، من دون أن يعني ترخيصاً لابتلاع تايوان. الأمر الوحيد الذي تتساهل به بكين، أو تغضّ النظر عنه، هو أن تكون لتايوان ممثليات تجارية وأن يقتصر التعامل معها على السلع. أما أن تكون لها سفارات، فهذا يعني تلقائياً استحالة العلاقة مع بكين، فكل الدول التي تعاملت كسواها مع تايوان باعتبارها “جمهورية الصين” حتى مطلع سبعينات القرن الماضي، اضطرت لمطالبتها بتغيير مسمّاها وصفتها الدبلوماسيين لتتمكّن من التعاون معها. وما أثار الجدل في الحقبة الأخيرة هو الإصرار على تعميم النموذج السياسي الصيني على المناطق التي يُراد ضمّها إلى المركز أو إلى سيطرة البر الصيني، من دون أي اعتبار لجرعة الديموقراطية التي تميّزت بها خصوصية هونغ كونغ مثلاً طيلة ما يزيد عن قرن، أو للتجربة التي بنتها تايوان لنفسها خلال سبعين عاماً.
ما يقلق الصين واقعياً هو تنامي الشعور القومي في تايوان، ممثلاً بصعود الحزب الديموقراطي التقدمي المطالب بالاستقلال الرسمي وانتخاب زعيمته تساي انغ ون رئيسة للدولة، ثم إعادة انتخابها وترجيح أن يستمر تفوّق هذا الحزب في انتخابات 2024، فيما يتواصل تراجع حزب الكومينتانغ الذي يميل إلى توحيد أجزاء الصين. يكاد القوميون أنصار الرئيسة تساي يمثّلون في نظر بكين ما يمثّله القوميّون الأوكرانيون الذين تعتبرهم موسكو “نازيين” يجب أن يُقضى عليهم. لذلك، وبعدما كانت “الصين الواحدة” هدفاً استراتيجياً حُدّدت السنة 2050 لتحقيقه “بالوسائل السلمية”، إذا بالباحثين والخبراء يضيّقون أخيراً هذه المهلة الزمنية ليشيروا مثلاً إلى السنة 2027، ويعزون ذلك إلى المتغيّرات الدولية، كالتراجع في النفوذ الدولي للولايات المتحدة، وأخيراً إلى الغزو الروسي لأوكرانيا الذي يعتبرون أنه لم يُضعف النفوذ الدولي للاتحاد الأوروبي بل هزّ النفوذ الغربي عموماً وجعل تغيير النظام العالمي على جدول أعمال العقد الحالي وما بعده.
بالنسبة إلى “النظام العالمي الجديد”، تعتبر الصين أنها أنجزت الكثير لإثبات تفوّقها اقتصادياً، وتخطو سريعاً نحو إثباته عسكرياً. وفي السياق نفسه تطوّر ارتباطها مع روسيا بناءً على تفاهمهما الضمني والعملي على تغيير ذلك “النظام”، يدعمهما في ذلك من جهة توظيف كوريا الشمالية وإيران كمصدرَي تهديد لأميركا، ومن جهة أخرى اختراق دول رابطة “آسيان” لضمان تحييدها. وتدرك الصين، كما روسيا، أن النظام الجديد يمرّ بالضرورة بـ”تصفية حسابات” مع الغرب، وتدفع ثمنها دول وشعوب (أوكرانيا، تايوان…).
لكي تستطيع الصين ممارسة دورها في “النظام الجديد”، لا بدّ لها أن تفكّ عقدتها التايوانية، وهي كانت قد احتاطت بتنقيح استراتيجيتها لإجازة “الوسائل العسكرية” عند الاقتضاء. لا شك في أن الغزو الروسي شكّل لها حافزاً وفرصة كانت تتوقّعهما، إلا أنها تراقب تطوّرات ذلك الغزو لتقرّر خياراتها في استغلالهما، خصوصاً قبل أن تتمكّن الولايات المتحدة من تفعيل تحالفَي “أوكوس” (مع بريطانيا وأستراليا) و”كواد” (مع الهند واليابان وأستراليا) الهادفين إلى لجم الطموحات الصينية في المحيطين الهادئ والهندي.