العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين
د. عبد المنعم سعيد
ما أن تقترب نهاية العام وتبدأ طلائع عام جديد في الظهور، فإن تقييم الماضي واستطلاع المستقبل تصبح وظيفة الكتاب والمحللين والخبراء والساسة، وعلى مدى خمسين عاما من العمل العام والكتابة المستقرة فإن الماضي لم يكن كثيرا مأسوفا عليه، أما المستقبل فكانت فيه دائما بشارة من نوع أو آخر أن الآتي سوف يكون أفضل.
وعلى مدى سنوات عديدة ظل العالم ينتظر عام ٢٠٠٠؛ لأنه لن يكون فقط بداية عام ولا عقد، بل قرن كامل وألفية كاملة، كانت روايات الخيال العلمي سبقت الجميع لكي تتحدث عن “ملف الغد”، ومن بعدها السينما بالطبع، لكن ما أن اقتربت المناسبة حتى حشدت الدول حشودها للاحتفال، ولما كانت مصر من الأماكن المختارة لمراقبة بداية ألف عام عند منطقة أهرامات الجيزة فقد أعدت للموضوع باحتفال مهيب.
المعضلة أن الاحتفالات المهيبة عادة ما يحضرها جماهير غفيرة، وعجزت الطرق عن تحمل العدد من السيارات، وانتهى الأمر بالعودة إلى المنزل دون مشاهدة الحفل بعد دقات منتصف الليل.
أما منطقة الاحتفال ذاتها فقد ألمت بها عاصفة ترابية، ونزل بعدها ضباب كثيف جعل من الاحتفال رحلة تعيسة لمن حضرها، لحسن الحظ أن ما عرف بكارثة KY2 الناجمة عن تغير أنظمة الكومبيوتر من أرقام معبرة عن سنوات القرن العشرين لن ينفع معها استخدام سنوات تنتمي إلى القرن الواحد والعشرين، وهكذا سوف تحدث اضطرابات كبرى في نظم الكهرباء والمياه والغاز والسدود وغيرها، لم يحدث شيء ومضي العام وجاء العام كما يحدث في كل عام.
ومع ذلك فإن التقليد لا يزال باقيا، وهذه المرة فإن بداية عام ٢٠٢٠ ربما يكون له إيقاع مختلف فهو ليس بداية اثنى عشر شهرا، وإنما هو أيضا بداية العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، وهذه فترة زمنية لا تعد طويلة يصعب التنبؤ فيها ويختلط فيها العلم بالخيال، كما أنها لا تعد قصيرة؛ حيث تمنع الشجرة رؤية الغابة الكثيفة وراءها.
هي في التحليل المستقبلي تعتبر فترة متوسطة يمكن قياسها من خلال مد المنحنيات الحالية على استقامتها، وعلى سبيل المثال فإن لمصر والسعودية خططا للتنمية بدأت في عام ٢٠١٥، أي مضى عليها خمس سنوات الآن، ويمكن الحصول على بياناتها، وهي ممتدة حتى ٢٠٣٠.
هذا التوجه يشمل دولا عربية أخرى مثل الكويت والأردن والبحرين والمغرب وعمان، أما الإمارات فربما كانت خططتها تصل بها إلى عام ٢٠٥٠.
عام ٢٠٢٠ المقبل يشكل علامة فارقة في رؤى الخطط التنموية، فبعد خمس سنوات من التطبيق فإن الحكم هو أن الإصلاح العميق للبنية الاقتصادية والاجتماعية ومعهما البنية الأساسية مبشرة بأنه يمكن الوصول إلى النتائج المرجوة مع نهاية العقد الثالث، الدول العربية التي لم تتبنَّ بعد خططا واضحة وعميقة للإصلاح، ولا زال بعضها يعيش فترات من العنف والتوتر والثورة والحراك، فهؤلاء ربما يستغرقون العقد كله للخروج من هذه الحالة.
ولكن العالم العربي، أو بعضا منه ممن أفاقوا من غيبوبة “الربيع العربي”، سوف يواجهون تغيرات دولية كبيرة خلال العقد الذي سوف يبدأ بعد أيام.
المنتدى الاستراتيجي العربي نشر مؤخرا كراسة عن “العالم في ٢٠٣٠”، لخص فيها ثمانية توجهات للعقد المقبل، أولها أن هناك تغيرا في مركز الجاذبية الاقتصادية العالمية من مركزه الأطلنطي بين الولايات المتحدة من ناحية والاتحاد الأوروبي من ناحية ثانية، إلى آسيا؛ حيث الكتلة الاقتصادية الضخمة للصين والهند، مضافا لهما دول جنوب شرق آسيا البازغة، هذا التغير يمثل محصلة قوة وعنفوان البداية التنموية، والأزمة الاقتصادية والمالية العالمية التي عصفت بالمركز السابق ما بين عامي ٢٠٠٨ و٢٠١٤.
هذا الانتقال سوف يؤثر على مكانة مجموعة الدول السبع G7، وعلى الدولار كعملة دولية أولى، وعلى الولايات المتحدة كقوة عظمى منفردة بقيادة العالم.
والتوجه الثاني يترتب على الأول، وهو أن واشنطن ضعفت كثيرا من عناصر قوتها نسبيا، ومن ثم فإن مكانتها التي حققتها خلال العقود الثلاث الماضية باعتبارها القوة الكونية الأولى أصابها الكثير من الوهن، نتيجة بزوغ قوى دولية أخرى مثل الصين، التي بات بقدورها تحدي الولايات المتحدة والدخول معها في حرب تجارية وتكنولوجية، ومن ناحية أخرى اتجاه الولايات المتحدة إلى الانسحاب من العالم عامة ومن الشرق الأوسط خاصة.
والثالث يترتب ليس فقط على الانسحاب الأمريكي النسبي من العالم، وإنما أكثر من ذلك التعبير عن توجه يبتعد عن العولمة المتمثلة في المنظمات الدولية متعددة الأطراف والمعتمدة على القانون الدولي في إدارة العلاقات الدولية.
بشكل أو آخر، فإن الدولة القومية باتت هي الأساس في إدارة السياسة بين الدول اعتمادا على قوتها الذاتية من ناحية، وهويتها القومية من ناحية أخرى. والرابع وهو النتيجة المنطقية لإعادة التأكيد على الدولة كفاعل رئيسي في العلاقات بين الأمم، فإن الاعتبارات “الجيوسياسية” سوف يكون لها السيطرة على تحركات وسياسات الدول تجاه بعضها بعضا.
والخامس أن ثورة المعلومات التي بدأت خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين وبلغت عنفوانها خلال العقدين الأول من القرن الواحد والعشرين سوف تندمج مع ثورة أخرى في مجال البيولوجيات، لكي تقوم “الثورة التكنولوجية الرقمية الحيوية الأولى” التي -كما حدث مع كل الثورات العلمية والتكنولوجية السابقة- سوف تغير من حياة الإنسان، وتوازنات القوى في العالم، والظن هو أن العقد الثالث سوف يكون حاسما في تحديد الخطوط الفارقة بين الدول على أساس من هذه الثورة.
والسادس -وأيضا كما حدث في ثورات سابقة في وسائل الإنتاج- فإنها صاحبتها الكثير من الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية التي تأخذ أشكالا سياسية. وبداية ذلك ظهرت بقوة في مناطق كثيرة من العالم قبل نهاية العقد الثاني، كما جرى في فرنسا وإسبانيا والجزائر والعراق ولبنان والسودان وشيلي والهند وهونج كونج وغيرها من الدول والمناطق.
والسابع وهو نتيجة منطقية لكل ما سبق؛ أن الحكومات الوطنية سوف تواجه نوبات من الضعف والوهن خاصة، نتيجة التوجه الخامس للضغوط الخاصة بارتفاع نسبة الحضر والسكان عامة، وضغوطهما على الشبكات القومية من ناحية وقدرات الكرة الأرضية من ناحية أخرى.
الضغوط على كوكب الأرض يدفعنا إلى إضافة اتجاه تاسع لا يمكن تجاهله، وهو أن التغيرات والضغوط المناخية للاحتباس الحراري التي دفعت دول العالم إلى توقيع اتفاقية باريس لإنقاذ الكوكب تعرضت لضربة كبرى بانسحاب الولايات المتحدة منها، وهي التي تشكل مع الصين أكثر المسببين لارتفاع نسبة الكربون في المناخ، مما يسبب ارتفاعا في درجات الحرارة تؤثر سلبيا على حالة القطب الشمالي وارتفاعات المياه في البحار.
لقد شهد العقد الثاني الكثير من ظواهر غرق الجزر، وتسلل المياه المالحة إلى المناطق الواطئة في العالم، منها في عالمنا العربي بدلتا وادي النيل، ولعل مشهد تهديد مدينة فينيسيا الإيطالية بالغرق الكامل يعبر عما يمكن تكراره خلال السنوات العشر المقبلة.
وفي النهاية بقي القول إن عالمنا العربي ليس بعيدا عن ذلك كله، بل إنه في الحقيقة الأكثر حساسية وانكشافا وتعرضا لهذه التوجهات، التي لا تزال تحتاج إلى استكشاف آخر، لما فيها ليس فقط ما فيها من مخاطر وإنما ما فيها من فرص أيضا.