الغرب ينظر إلى مستقبل تونس وليس إلى الماضي
مختار الدبابي
من الطبيعي أن تكون لدول مثل الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي موقف مما يجري في تونس، وهو أمر عادي ولم يتوقف منذ فترة حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي مرورا بمختلف مراحل ما بعد الثورة وصولا إلى إجراءات قيس سعيد ليوم الخامس والعشرين من يوليو وما تلاها من مراسيم تنفيذية خاصة قرارات يوم الثاني والعشرين من سبتمبر التي تحدد آليات إدارة المرحلة الجديدة.
لكن متابعة الخارج لوضع تونس ليست هي متابعة الحكومة ولا معارضيها، فالخارج لديه مصالح ومطالب واضحة تحددها اتجاهات المرحلة وماذا ستحقق. ليس هناك أي اعتراض على قرارات الخامس والعشرين من يوليو ولا على الثاني والعشرين من سبتمبر، فقط هم يريدون التسريع بتنفيذ تلك القرارات للوصول إلى تحقيق استقرار سياسي يساعد على إجراء الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة التي سيتم على ضوئها الاستمرار في مساعدة تونس ماليا للخروج من أزمتها.
لقد أظهرت المواقف الغربية، وخاصة الأميركية، أن واشنطن لم تكن ضد إجراءات الخامس والعشرين من يوليو، وربما دعمتها من وراء الستار لأجل الخروج من حالة الفوضى السياسية التي سيطرت على تونس خلال عشر سنوات.
صحيح أن واشنطن وعواصم أوروبية مهمة، مثل لندن وبرلين، قد دعمت الانتقال الديمقراطي في تونس، وأشادت بثورة الياسمين، وبوجود نموذج عربي يحتكم بجدية إلى صناديق الاقتراع، واستقبلت تلك العواصم مختلف رموز المرحلة الجديدة بمن فيها ممثلو الإسلاميين، كما دعمت التوافق السياسي لأجل عبور المرحلة الدقيقة للبلاد.
لكن ذلك الحماس بدأ يخفت بالتدريج بعد أن ظهر أن الطبقة السياسية ليست لها القدرة على إدارة الدولة، وأنها ركزت فقط على تحقيق مكاسبها المباشرة، وتحصين نفوذها عبر سن القوانين ومحاولة وضع اليد على المؤسسات الدستورية المختلفة، فيما أغفلت الملف الاجتماعي والاقتصادي كليا، وتركت البلاد تسير نحو المجهول.
ومع ذلك، فقد سعت الدول الداعمة لتونس على التواصل مع مختلف الحكومات لأجل بناء أرضية تفاهم تقود إلى الإصلاحات، وعقدت معها المؤسسات المانحة حوارات واجتماعات وتفاهمات واضحة، لكن لا شيء من ذلك تحقق، وكان الجميع يهرب إلى الأمام ويتلافى اتخاذ القرارات المصيرية.
لأجل هذا لم يظهر الأميركيون ولا الأوروبيون أي حماس تجاه مطالب معارضي قيس سعيد بشأن عودة البرلمان، أو ممارسة ضغوط على السلطة الجديدة لتقديم تنازلات بشأن فتح حوار مع هذه المنظومة ورموزها، حتى أن وفد الكونغرس الأميركي زار تونس والتقى فعاليات سياسية ومدنية وتجنب لقاء راشد الغنوشي الذي كان يرأس البرلمان، ويروج أنصاره أنه مدعوم أميركيا، وهو نفسه قد بنى تصعيده في البداية على أساس السند الخارجي القوي.
لكن لا أحد أنجده لا من الأميركيين والأوروبيين، ولا من أصدقائه التقليديين في قطر وتركيا، ما يوحي بأن حكم السنوات العشر الماضية لم يعد يقبل به العدو والصديق في نفس الوقت.
وانطلاقا من هذه الأرضية الباحثة عن جهة تونسية مسؤولية وقادرة على أن تخرج البلاد من الفوضى، جاءت تصريحات المسؤولين الأميركيين، وآخرها موقف وزارة الخارجية الداعم لتشكيل الحكومة في تونس لتؤكد أنها لا تريد عرقلة الإصلاح السياسي والحكومي في تونس، وهي الإشارة التي فهمها الرئيس سعيد، وسيفهمها معارضوه بعد وقت.
وقال المتحدث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس في بيان صحافي نشرته السفارة الأميركية في تونس الثلاثاء “نهنئ تونس على تشكيل حكومة جديدة بقيادة رئيسة الحكومة نجلاء بودن رمضان”.
وأضاف برايس “تعد الحكومة الجديدة خطوة مرحبا بها تخطوها تونس إلى الأمام نحو معالجة التحديات الاقتصادية والصحية والاجتماعية الكبيرة التي تواجه البلاد”.
سيقول القائل وماذا عن موقف الكونغرس المتحفظ على الإصلاحات التي بدأها قيس سعيد، وهو موقف قد يتبناه البرلمان الأوروبي الذي يعقد جلسته بعد غد الثلاثاء؟
إن التدخلات التي جاءت خلال مداولات الكونغرس بشأن تونس، لم تدع إلى عودة البرلمان السابق، ولم تعلن رفضها لإجراءات الخامس والعشرين من يوليو أو الثاني والعشرين من سبتمبر، لكنها بنت مؤاخذاتها على شيئين مستقبليين، الأول يخص تحديد سقف زمني للمرحلة الاستثنائية. ولم يطالب المتدخلون بتحديد زمني بدورهم، فقط طالبوا قيس سعيد بأن يفعل هذا ويوضح متى تنتهي المرحلة الانتقالية، والعودة إلى المسار الدستوري، أي بناء مؤسسات شرعية جديدة
وهذا مطلب مقبول ومعقول، ولا شك أن قيس سعيد لن يحافظ على المرحلة الاستثنائية إلى ما نهاية، لكن الأمر يتطلب التحرك على مسارين اثنين، الاستمرار في معالجة القضايا الناتجة عن مخلفات المرحلة القادمة من جهة، ومن جهة ثانية التحضير لإجراء تعديلات على النظام السياسي والقانون البرلماني سواء من بوابة الاستفتاء، أو الدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة على أن يتولى البرلمان الجديد مهمة تحضير الاستفتاء ووضع ملامح الانتقال إلى نظام سياسي جديد.
أما الجزء الثاني من المطالب التي جاءت على لسان متدخلين في الكونغرس فتخص إجراء حوار في تونس حول الإصلاحات، وليس المهم من سيكون ممثلا في هذا الحوار، بقدر أهمية التوصل إلى أرضية ملزمة للجميع بشأن تبني الإصلاحات.
والمقصود هنا ليس الإصلاحات السياسية، فقد شبع التونسيون بجدل الإصلاح السياسي وبناء المؤسسات الدستورية، ولكن الهدف الرئيس لهذه الإصلاحات هو الموضوع الاقتصادي، وأساسا ما ورد في تقييم وكالة موديز الأخير الذي حطت فيه من تنصيف تونس إلى مستوى عالي المخاطر.
وحسب تشكيل الحكومة الجديدة “سيفتح الطريق أمام مفاوضات جديدة مع المقرضين الرسميين”، ولكن “من الصعب أن يتم التوافق حول إصلاحات سابقة وخاصة في ما يتعلق بكتلة الرواتب في القطاع الحكومي وإصلاح الدعم المالي لقطاع الطاقة وإصلاح المؤسسات الحكومية”.
وبالنتيجة، فإن ما يهم الداعمين الخارجيين في الشأن التونسي، هو النظر إلى المستقبل وسبل تحسينه، وليس التمسك بماض لا يخفي الفاعلون فيه قناعتهم بأنه كان مرحلة فاشلة.