“الفرار” الأمريكي من أفغانستان
بهاء العوام
تحث الولايات المتحدة رعاياها على مغادرة أفغانستان حاليا بعدما اقتربت حركة “طالبان” من السيطرة الكاملة على الدولة.
فبعد عشرين عاما من السيطرة على ذلك البلد الآسيوي يخشى الأمريكيون البقاء ليلة واحدة دون أسلحة تحميهم.. ليسوا هم فقط، وإنما كل من تعاون معهم، معتقدا أنهم جاؤوا ليمنحوا البلاد مستقبلا أفضل يخلو من التطرف.
ماذا يقول هذا “الفرار” الأمريكي من أفغانستان؟ وأي رسائل يبعث بها إلى العالم؟، خاصة عندما يترافق ذلك مع تصريحات لمسؤولين في “البيت الأبيض” تطالب “طالبان” بوقف تمددها والجلوس على طاولة المفاوضات مع حكومة كابول لتتقاسم معها السلطة والنفوذ، كأن هؤلاء المسؤولين يجهلون عقلية الحركة وجماعات الإسلام السياسي.
ما الذي يجعل “طالبان” تتقاسم السلطة مع أحد إن كانت تستطيع السيطرة على البلاد بأكملها؟
لو أن الحركة تقبل بغيرها وترضى بغير السيطرة على الدولة، لما لجأت إلى قوة السلاح أصلاً.. كانت ستدعو إلى انتخابات مبكرة وتنتزع من الحضور السياسي بقدر ما تحصل عليه من أصوات، ولكن هل أسست أمريكا أصلاً لنظام انتخابي هناك؟
لا يُصدَّقُ ذلك التهديد الأمريكي لـ”طالبان” بعدم الاعتراف بشرعيتها إنْ سيطرت على الدولة بقوة السلاح، فأمريكا مستعدة للتعامل رسميا مع الحركة والإقرار بشرعيتها من اللحظة الأولى التي ستعلن فيها السيطرة على كابول، والهيمنة على مؤسسات أفغانستان، المدنية منها والعسكرية، حتى دون إجراء انتخابات أو استفتاءات.
بريطانيا، حليفة الولايات المتحدة وشريكتها في الحرب الأفغانية، كانت أكثر جرأة في توصيف واقع الحال عندما قال وزير دفاعها أمام البرلمان إن بلاده “مستعدة” للتعامل مع حركة “طالبان” إذا ما وصلت إلى السلطة.
لم يحدد لها آلية هذا الوصول، ولم يشترط عليها أن تحول الداخل إلى ما يشبه الديمقراطية الإنجليزية، هو فقط يريد منها ألا تكون مصدر قلق للأمن والسلم الدوليين، وألا تكون منبعا للإرهاب حول العالم.
الولايات المتحدة تريد الأمر ذاته من “طالبان”، ولم يعد يعنيها ماذا تفعل في الداخل، وماذا ينتظر الأفغان تحت رايتها.
تغادر أمريكا بقواتها ودبلوماسييها ومستشاريها وكل من تعاون معها على مدار عقدين كاملين، وتترك بقية الأفغان ليواجهوا مصيرهم.. لا يهمها كم الأحلام التي دمرت في رحيلها، ولا كم الأمنيات التي انتهت إلى كوابيس مفزعة.
مَن يمكن أن يثق بعد الآن بمقاربات الولايات المتحدة لحلحلة مشاكل العالم؟.. إنْ لم تفرض نفسها بالقوة لن يطلب أحد منها دعماً أو مساعدة في تسوية نزاع داخلي أو خارجي.. فـ”مَن يجرّب المجرّب فعقله مخرّب” كما يقولون، وبمجرد النظر إلى أفغانستان والعراق وسوريا وغيرها من الأمثلة، تدرك بسرعة جدوى ومنطق النظرية الأمريكية.
من يتأمل أفغانستان أو العراق أو غيرهما من الدول، التي وُجدت فيها أمريكا عسكرياً، يزد قناعة بأن أمريكا ليست جادة في محاربة الإرهاب، وليست جادة أيضا في تأسيس دول ذات مقومات ديمقراطية يمكن أن تتطور في المستقبل.. هي تهدم فقط ما هو قائم بوصفه سيئا ويحتاج إلى تغيير، ولكنها لا تخلق بديلا، ولا تساعد غيرها على صناعته.
الوصفة الأمريكية هي التالية، إزاحة فئة عن السلطة باعتبارها مستبدة وتدعم الإرهاب أو تهدد جوارها والمنطقة والعالم بالحروب.. والإتيان بفئة أخرى تتنفس فساداً وتقتات على الظلم والاستغلال، وهنا يندم السكان على من ذهب ويترحمون على أيامه، لأن البديل الذي جاءت به أمريكا كان أسوأ، وأكثر طمعاً وانتهازية وجشعاً.
بحث متخصص نشرته مجلة حلف الناتو قبل سنوات، يقول: “تتركّز السلطة الحقيقية في جميع محافظات أفغانستان الأربع والثلاثين بأيدي قادة عسكريين ومليشيات مسلّحة تجمعها علاقات وثيقة مع كبار المسؤولين بالحكومة المركزية، وهنا تتكرر صورة الفساد في كابول أربعة وثلاثين مرة، وكلُّ من يرفض أوامر هؤلاء القادة يكون مصيره الموت، ولا تستطيع أي سلطة قضائية رسمية تقديم هؤلاء المجرمين إلى العدالة”.
ألا يساعد هذا الوضع حركة “طالبان” على التمدد بكل سهولة في البلاد؟ أليس من الطبيعي أن يمارس الأفغان الحيادية واللا مبالاة، إن لم يكن الترحيب، إزاء عودة الحركة إلى السلطة، إن كان واقع الحال في بلادهم يقول إن أمريكا لم تنجز بناء القضاء والقانون؟
لقد انتهى الأمر إلى انعدام الأمن وتأييد الكثيرين للفصائل المسلّحة المعادية للنظام.
لن يمضي وقت طويل حتى يدرك الأفغان أن “طالبان” لم تتحول إلى حركة ديمقراطية خلال السنوات الطويلة، التي أقصيت فيها عن السلطة، فهي لا تستطيع أن تكون كذلك ولو انتظر الناس مائة عام أخرى، لأن طبيعة وثقافة جماعات الإسلام السياسي لا تعترف بالديمقراطية والتعددية واختلاف الآخر، ولا تؤمن بالحرية كخيار وحق وواجب.
كل جماعات الإسلام السياسي تشبه بعضها في هذا.. وكلها خاضت وتخوض تجارب فاشلة في قيادة الحكومات وإدارة شؤون البلاد.. ذات الأخطاء تتكرر، ولا تحرص هذه الجماعات على تصويبها وتقويمها لأنها لا تراها.. فهي تعتبر نفسها كاملة، والمشكلة تكمن في ذلك “العدو” الذي لا يريد وجودها في السلطة ويخشى قيادتها للدولة.
المشكلة في الواقع ليست في هذه الجماعات وحدها، وإنما أيضا في مَن لا يرى عيوبها ويقتنع بعجزها عن ممارسة السياسة بشكلها الطبيعي والديمقراطي، فهو إما يجهل أساسيات العمل السياسي وأدوات الحكم وإدارة الدول، وإما “متآمر” على شعوب الدول، التي تعيث فيها جماعات الإسلام السياسي فسادا وخرابا منذ عقود طويلة.
يعرف الجميع أين تقف الولايات المتحدة بين الخيارين، وكيف استغلت حركة “طالبان” منذ نشأتها في تسعينيات القرن الماضي، قبل أن تتحول إلى عدو بعد هجوم الحادي عشر من سبتمبر 2001، وبعيدا عن الدعاية الإعلامية الأمريكية اليوم، ذلك العدو نفسه يستعد للتحول مرة أخرى إلى حليف وصديق بعد أشهر قليلة فقط.
لا يهم قول واشنطن إن تصرفات “طالبان” تتعارض مع زعمها دعم تسوية تفاوضية في أفغانستان، ولا يهم أيضا ما تطالب به تحت قبة مجلس الأمن بوقف “طالبان” هجماتها على الولايات والمدن، والسعي إلى تسوية سياسية شاملة ومستدامة في البلاد.. المهم فقط هو ماذا سيجمع أمريكا و”طالبان” بعد الحادي عشر من سبتمبر 2021؟ وما الخدمات التي ستقدمها الحركة للولايات المتحدة في جنوب شرق آسيا؟