الفوضى المتعمّدة في أفغانستان
بهاء العوام
قبل عشرين عاما، زحفت جيوش الناتو إلى أفغانستان لتقضي على الإرهاب وتصنع دولة ديمقراطية في قلب آسيا.
واليوم بعد أن فشل الحلف في تحقيق هذه الأهداف، وأصبحت دولُه تتخبط في إجلاء رعاياها من أفغانستان، نجد أنفسنا أمام احتمالين لا ثالث لهما، إما أن التخطيط في دول الغرب يشوبه كثير من الثغرات، وإما أن أمريكا ورطت هذه الدول بالحرب والانسحاب من أفغانستان.
ذاك الانسحاب لم يحل عاصفا ومفاجئا مثل وباء كورونا.. لقد بدأ العد التنازلي فيه منذ أشهر طويلة، ورغم ذلك بدت دول الغرب عاجزة عن إجلاء رعاياها، فعقدت القمة تلو الأخرى، ثم راحت تطلب من حركة “طالبان” المرونة والتعاون في السماح للأجانب المدنيين بالوصول إلى مطار كابول.
مجلة “فورين بوليسي” تقول إن آسيا الوسطى لم تعد تلك الجغرافيا الفوضوية التي كانت عليها قبل عشرين عاما حينما حكمت “طالبان” أفغانستان.. فكل شيء في تلك البقعة من العالم -حتى “طالبان” نفسها- بات أكثر دهاء وقدرة على المقايضة والمساومات والابتزاز.
الفوضى هي ما تعمدت الولايات المتحدة خلقه في الانسحاب من أفغانستان ليرتد الأمر على خصومها في قارة آسيا، ولكن الصين وروسيا تعلمان جيدا كيف تستغلان الفراغ الأمريكي هناك، كما أن الدول التي يمكن أن تفكر واشنطن في الضغط عليها عبر حركة “طالبان” ليست قليلة الحيلة والتدبير.
فمهما كانت خطط الولايات المتحدة من خلق الفوضى في أفغانستان، فإن حلفاءها في الشرق والغرب هم أول من دفع ثمنها، ناهيك بعشرات الآلاف من اللاجئين الأفغان، الذين حملتهم أرجلهم، أو الطائرات، إلى دول مختلفة كمحطة عبور إلى “جنة أمريكا”، ولا أحد يعرف كم تدوم ومتى ستنتهي هذه المحطة؟
الانسحاب الأمريكي المتهور جعل دول الغرب تأخذ قرارات صعبة، كما يقول وزير الدفاع البريطاني.
فقد كان لزاما على هذه الدول إجلاء رعاياها أولا، ومن ثمّ تفكر في مساعدة الأفغان الذين ساعدوا جيوش الناتو خلال عشرين عاما كاملة.
ثمة أجيال من الأفغان عاشت في وهم “الديمقراطية” الأمريكية المشيدة في بلادهم، ثم وجدت نفسها فجأة لاجئة وفارّة من “طالبان”.
أمريكا، أكثر من أي دولة في مجموعة السبع، كانت تتوقع سيطرة “طالبان” على السلطة هناك، ولكنها “تفاجأت” بسرعة وقوع ذلك، والتوقع بحد ذاته كان يقتضي التخطيط جيدا للانسحاب من أفغانستان، ولمرحلة عودة “طالبان” إلى السلطة، وأيضا لاحتمالية تفجر الإرهاب في هذه المنطقة مرة أخرى.
سقوط كابول وقع قبل خروج قوات الناتو من أفغانستان، والإرهاب تفجّر قبل أن تنتهي دول الغرب من إجلاء رعاياها من هناك، ورغم ذلك تمسك الرئيس الأمريكي جو بايدن بموعد الانسحاب، وكل ما وعد به بعد تفجيرات كابول، التي قتلت مائة وسبعين شخصا، بينهم ثلاثة عشر جنديا أمريكيا، هو ملاحقة الإرهابيين وقتلهم.
وحدها الولايات المتحدة كانت منخرطة في مفاوضات مع “طالبان” خلال عام كامل قبل الانسحاب من أفغانستان، وهي تعرف تماما ماذا كان سيحصل عند وصول “طالبان” إلى كابول.
لا يهم كم كانت سرعة سيطرة “طالبان” على السلطة في أفغانستان، وإنما ماذا كان ينتظر الأمريكيون بعدها.
الإجابة باختصار هي الفوضى، التي دفنت تحتها آثار السياسة الأمريكية الجديدة في آسيا، فواشنطن تريد إشعال جبهات ضد خصومها انطلاقا من أفغانستان، وقائمة الخصوم تضم روسيا والصين وكل من لف لفيفهما وأراد أن يمس بدور أمريكا كشرطي للعالم يرسم الخرائط ويوزع الأدوار.
الفوضى بدأت فعلا، والمضي في إشعال الجبهات الأمريكية لم يعد يحتاج إلا إلى الاعتراف بحركة “طالبان”، وهذا الاعتراف بالطبع لن يطول، ولن يكون مشروطا بتلك القائمة الطويلة من الحقوق والحريات التي “يريدها” الغرب.
بوابة الاعتراف هي مكافحة الإرهاب في أفغانستان، وكل الاستثناءات المطلوبة تمر عبرها.
قليل من المرونة في الداخل وكثير من الخدمات في الخارج هو ما تريده الولايات المتحدة من “طالبان” لتفتح أبواب الشرعية الدولية أمامها، والشروط الأمريكية معروفة لدى الحركة منذ أن بدأت مفاوضات الدوحة.
ولأن الجميع يعرف ذلك، لم يعلن أحد في الغرب استحالة الاعتراف بالحركة.. فدول مجموعة السبع مستعدة للاعتراف بـ”طالبان” بمجرد أن تنطق به الولايات المتحدة.. وجُل ما تخشاه أمريكا الآن هو أن تسبقها روسيا والصين وحلفاؤهما في منطقة آسيا الوسطى إلى هذا الاعتراف، فتزيد “طالبان” من شروطها للتعاون في “الحرب على الإرهاب” ومقارعة خصوم واشنطن في آسيا.
في التاسع من ديسمبر 2019 نشرت الـ”واشنطن بوست” سلسلة وثائق أطلق عليها اسم “أوراق أفغانستان”.. وهي تشرح كيف فشلت الولايات المتحدة في صناعة دولة على أرض ذلك البلد الآسيوي، وكيف نشرت الفساد هناك، حتى بات الانسحاب العسكري من أفغانستان مطلبا أمريكيا داخليا.
اليوم تحقق هذا المطلب، وبات الجنود على بعد بضعة أيام من العودة لوطنهم.. لن يطول الأمر حتى تظهر “أوراق أفغانستان” جديدة، ولكن ليس لتحكي قصة فشل أمريكا خلال عشرين عاما، وإنما قصة فوضى انسحابها من هناك.
كولن باول، وزير الخارجية، الذي قاد دبلوماسية الولايات المتحدة وهي تقرع طبول الحرب على العراق وأفغانستان عام 2001، يقول “إن النجاح ليس له أسرار، وإنما هو حصيلة إعداد جيد وعمل شاق وتعلم من الأخطاء والفشل”.
لا يبدو أن أمريكا تأخذ بهذه المقولة أبدا، فقادة اليوم فيها يواصلون الفشل، الذي بدأه “باول” وزملاؤه قبل عقدين.