القرضاوي يكشف الإخوان حياً وميتاً
محمد أبو الفضل
كشف مشهد الجنازة التي أقيمت في الدوحة الثلاثاء لتشييع جثمان يوسف القرضاوي مركزية الرجل لدى جماعة الإخوان المسلمين بما يتجاوز حدود الدولة الأم مصر، حيث حضرتها شخصيات سياسية من أماكن مختلفة ونعته أصوات كنا نعتقد أنها بدأت تلتزم الصمت عقب اتساع نطاق التحديات التي تواجهها الجماعة في دول عديدة.
أكد مشهد الجنازة الذي رعته الدولة القطرية أن القرضاوي حظي بمكانة رسمية كبيرة لم تهتز بعد التطورات الإيجابية التي لحقت بعلاقاتها مع مصر، وكانت جماعة الإخوان وقياداتها سببا رئيسيا في توتيرها، واجتهادات وفتاوى الراحل من بينها.
ودّع الرجل الحياة وقد أسهم تنظيمه الذي شغل شعوبا وحكومات بالمنطقة في جعلها أصعب فكريا وسياسيا وحياتيا، وتقف الدول التي دعمت الجماعة في منتصف الطريق لا هي قادرة الآن على التخلي صراحة عن الجماعة كسلاح سياسي، مثل قطر، أو أيديولوجي، مثل تركيا، أو الوثوق فيها والتعويل عليها لتحقيق مصالحها في الفترة المقبلة.
أسهم الفكر الإخواني والمال القطري السخي والقوة العسكرية التركية في وضع الجماعة على بداية طريق كانت ترى أن نهايته سوف تصل بها إلى إحكام الهيمنة على مفاتيح السلطة في عدد من الدول العربية، ولعب القرضاوي دورا مهما في الجمع بين أضلاع هذا المثلث، غير أن النتيجة الماثلة توحي بوجود تغييرات في المنطقة دور الإخوان فيها مبهما وبحاجة للمزيد من الوضوح والتحديد.
أكد حضور قيادات كبيرة في حركة حماس الفلسطينية أنها لن تحيد عن طريق الإخوان، ففكر الجماعة متجذر فيها وأخواتها، وكل الروافد التي انبثقت منه في جميع الدول العربية لم تتخل عنه ولو تظاهرت بإدخال تعديلات عليه، ما يعني أن هناك مقاطع جديدة في أفكار المشهد الإخواني سوف يتوالى ظهورها الفترة المقبلة، ولا يشير الكمون الحالي إلى تنصل منها.
لفت التقدير الذي حظي به الرجل في صفوف التنظيم الدولي للإخوان وهو على قيد الحياة الانتباه إلى أنه لم يكن قياديا عاديا وأفكاره مستمرة بعد وفاته لأجل غير مسمى، ومن راهنوا على أن رحيله طوى صفحة لن يكون رهانهم دقيقا، لأن الجماعة وقطر وتركيا ومعظم الجهات التي تبنت مشروع الإخوان وقدمت دعما لم تتغير مواقفها بالصورة التي يمكن القول معها إن هناك مرحلة جديدة ومختلفة شكلا ومضمونا.
قد يكون حدوث تغير في الشكل منطقيا بما يتوافق مع طبيعة الأجواء السائدة التي لا تجعل الإخوان جزءا رئيسيا في أحداث المنطقة، لكن من الصعوبة انتظار تحول قريب في المضمون، فكل الدوائر الحركية والإقليمية والدولية التي انخرطت في مشروع الإخوان، بدرجات متفاوتة، لم تقدم ما يؤكد أنها مستعدة لتغيير قناعاتها السياسية تماما.
لم يعد ملف الإخوان موضوعا على مقدمة الطاولة التي تناقش عليها هموم وقضايا المنطقة من قبل دول عديدة، لكن لم يغادرها نهائيا، وحدوث تراجع الأولوية أو انحناءة في التعامل معه ليس كافيا لرفعه من على الطاولة، فقد تأتي اللحظة التي ينشغل بها حكام المنطقة بهذا الملف، إذ لا يزال مفتوحا وكل جروحه لم تلتئم بعد.
عزز التفاعل مع وفاة القرضاوي من جانب أتباعه أن مشروع الإخوان يمكن أن يعود إلى واجهة المشهد العام، وكل التصرفات الأمنية والخطوات السياسية التي تم التعامل بها معه خلال السنوات الماضية لم تتمكن من التخلص منه، لأن الأطراف التي تقف خلفه تعتقد أنه قابل للعودة إلى الحياة وثمة إمكانية كبيرة لتوظيفه مرة أخرى.
اكتفى النظام القطري بالإشارة إلى عدم وجود علاقة خاصة مع الإخوان من دون أن يفسر أو يبرر الأسباب التي دعته إلى احتضان العدد الكبير من قيادات الجماعة في الدوحة، والذي كشفه تشييع جنازة القرضاوي، واستمرار ظهور بعضها على شبكة الجزيرة وشقيقاتها من المنصات الإلكترونية التابعة لها بصورة غير مباشرة.
حاول أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بحديثه أخيرا التعبير عن احترام جميع الأنظمة ونفي رعاية الدوحة للإخوان، إلا أنه لم يقدم ما يثبت ذلك، وتسبب ترك الأمر غامضا في تصاعد التوقعات بأن ورقة الإخوان لم تستبعدها قطر كأداة من سياستها الخارجية، طالما أنها لم تجد البديل الذي يحقق لها الأهداف بصورة أكبر وأسرع.
تعلم الجماعة هذه الأهمية وتحافظ عليها ولا تتوانى قياداتها عن مدح النظام القطري ليلا ونهارا، لأنها تعلم في اللحظة التي تسحب فيها الدوحة يديها من دعم الجماعة، سرا أو علنا، ستفهم أن هناك تغيرا كبيرا سوف يصيبها في المنطقة، وبما أن ذلك لم يحدث بعد يظل حال الإخوان في الدوحة بعد رحيل القرضاوي كما هو قبله.
ينسحب الحديث عن قطر إلى تركيا بصورة أكثر عمقا، لأن الثانية تتعامل مع الإخوان من منطلق أيديولوجي وليس سياسيا، ما يجعل مسألة التغيير الحاسم مستبعدة ومرهونة بالحالة التي يعيشها الرئيس رجب طيب أردوغان وفرضت عليه الفترة الماضية تليين مواقفه السياسية مع الدول التي تستهدف الجماعة، ولم يرتكب الرجل فعل التحول التام، لأن الإخوان جزء مهم في حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا.
كل ليونة ظهرت في التحركات التركية في ملف الإخوان لا تحمل تأكيدا على وجود تغير حقيقي، وما يحدث يندرج في إطار اختيار الوسائل الأنسب التي تحقق بها أنقرة مصالحها بلا مساس كبير في المنظومة الإستراتيجية التي تتعامل بها أجهزة الدولة مع الجماعة وتؤكد في مجملها أنها لن تتركها تدخل في مرحلة قاسية من التيه.
وكل التوجهات التي ظهرت في الخطاب الغربي وحملت معاني سلبية الفترة الماضية لا يمكن اتخاذها مقياسا على انتهاء العلاقة مع الإخوان، كما ضاعفت بعض التصورات الغربية، وفي مقدمتها الأميركية، من مخاوف العودة إلى إفساح المجال أمام الجماعة بعد تهيئة الأجواء من خلال الدفع نحو المزيد من الحريات في مصر لتسلل الجماعة من هذه النافذة إلى المسرح السياسي.
يؤدي تجميد الإخوان نسبيا في تفاعلات الدول المعنية بها، سلبا أو إيجابا، إلى توقع الجدل حول عودتها والصورة التي يمكن أن تعود بها في المدى المنظور، ففكر الإخوان ومال قطر وقوة تركيا لم تطرأ عليها تغيرات تكفي للوثوق في أن الهدوء الظاهر بين القاهرة وكل من الدوحة وأنقرة يقود إلى هدوء مستمر، فالقرضاوي غادر الدنيا وبقي مشروعه حيا في عقل من يعتقدون أنه قادر على تحقيق مصالحهم.