اللاعقلانية في السياسة الفلسطينية
ماجد كيالي
في كتابه “اللاعقلانية في السياسة العربية” (دار الطليعة، بيروت، 1975) أعلن ياسين الحافظ اكتشافه فكرتي أو مصطلحي “الواقعية الثورية”، و”موازين القوى”، مؤكدا تأثير ذلك على إدراكه السياسي.
وعن ذلك يقول الحافظ (1930 – 1978) “الواقعية الثورية.. منحتني أدوات جديدة في التقييم السياسي، ليس لها مكان أو اعتبار لدى الرومانسية الثورية. أولى هذه الأدوات مقولة ميزان القوى وتأثيره على العلاقات الدولية، سواء في زمن السلم أم في زمن الحرب. احتلت هذه الأداة مكاناً مركزياً في تصوراتي وتحليلاتي السياسية، ولم تلبث أن لحقت بها أدوات أخرى: المصلحة، الفائدة، مفاعيل الزمن. بتأثير من الواقعية الثورية أيضاً أخذت أنزع عن ميزان القوى العربي الإسرائيلي الأوهام التي نثرتها النرجسية القومية، والعجز عن نقد الذات، وفرزت العوامل المحلية عن العوامل الدولية في هذا الميزان، الأمر الذي قادني إلى قراءة جديدة للصراع العربي – الإسرائيلي، كشفت لي كيف سهّل الفوات والتأخّر العربيان قيام دولة إسرائيل، وكيف سهلا ويسهلان توسعها بعد قيامها”.
وفي الحقيقة فإن كلام الحافظ، مثل أي كلام مماثل، لم يؤثّر إلى الدرجة المناسبة في إدراكات القوى السياسية العربية بكل تنويعاتها، على مر العقود الماضية، وضمن ذلك فهو لم يؤثر في الوعي السياسي للفصائل الفلسطينية السائدة، رغم أن قياداتها غرقت في ما يسمى “الواقعية”، أولاً، لأنها ظلّت تؤسس خطاباتها ومواقفها وطرق عملها، وشرعيتها، على أسس عاطفية أو رغبوية أو أيديولوجية أو قدرية؛ وهو ما زال حتى الآن، إن في عبارات قيادة السلطة بأن إسرائيل ستواجه عواقب وخيمة إن فعلت كذا أو كذا، كما في عبارات قيادات حماس والجهاد من أن الأرض ستزلزل تحت أقدام إسرائيل.
وثانيا لأن تمثل القيادة الفلسطينية، وهي قيادة المنظمة والسلطة و”فتح”، للواقعية لم يعن إلا أمراً واحدا بالنسبة إليها، وهو التحول من حركة تحرر وطني إلى سلطة، قبل إنهاء الاحتلال، وفقا لاتفاق أوسلو عام 1993، الناقص والمجحف.
وفي محصلة كل ذلك فإن الحركة الوطنية الفلسطينية خسرت ذاتها، وضيّعت شعبها، وهمشت قضيتها، وأضعفت الكيان الوطني الجمعي المتمثل بمنظمة التحرير، ولم تربح السلطة، بواقع بقائها عند حدود حكم ذاتي تحت الاحتلال، وبواقع ضمور شرعيتها الشعبية، وتحولها إلى مجرد سلطة على جزء من شعب في جزء من أرض، في جزء من حقوق، مع كل ما اعترى ذلك من ارتهان للدول المانحة، وبنى سياسية أضحت متكلسة، ولم يعد لديها ما تضيفه.
وفي الحقيقة فقد أبدى الفلسطينيون قبل إقامة السلطة وبعد إقامتها، كل ما بوسعهم من تضحيات وبطولات في مقاومة إسرائيل، إلا أن مشكلتهم أنهم كانوا يقاومون بعنادهم وبإيمانهم بقضيتهم، بمعنى أن المشكلة كانت تكمن في افتقادهم لقيادة تنظم كفاحهم، وتعيّن أشكال الكفاح الأنسب لهم، والتي توازن بين تضحياتهم وإنجازاتهم.
مناسبة هذا الكلام صدور التقرير السنوي لمركز الزيتونة لعامي 2018 – 2019، والذي يبين بجلاء الفجوة الهائلة بين إمكانيات إسرائيل وإمكانيات الفلسطينيين، الأمر الذي يفترض إدراكه، والعمل على رسم الاستراتيجيات المناسبة التي تخفف من أثره، أو انتهاج الطرق الكفاحية التي تمكن الفلسطينيين من تحقيق إنجازات ولو بالنقاط، والتي تسمح لهم بتقليل الكلفة التي يتكبدونها، بحيث لا تشكل طرائقهم النضالية استنزافا لهم أكثر مما تستنزف عدوهم.
وبحسب التقرير، وفق تقديرات العام 2019، فعلى الصعيد الاقتصادي بلغ الناتج المحلي الإجمالي للسلطة الفلسطينية نحو 16.82 مليار دولار، مقابل الناتج المحلي الإسرائيلي الذي بلغ نحو 390.36 مليار دولار، أي أن الناتج المحلي للسلطة يساوي 4.3 بالمئة من الناتج المحلي الإسرائيلي، ومعنى أن الناتج الإسرائيلي يزيد عن 23 ضعف الإنتاج المحلي للسلطة. وعلى ذلك فقد بلغ متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الفلسطيني في مناطق السلطة الفلسطينية ما معدله 3.600 دولار، في حين بلغ نحو 43.240 دولار للفرد الإسرائيلي، أي أن الفرد الإسرائيلي يحصل على أكثر من 12 ضعف دخل الفرد الفلسطيني تحت الاحتلال. وفي حين تعتمد إيرادات السلطة الفلسطينية بشكل أساسي على مصادر لا تتحكم بها، إذ نحو 84.3 بالمئة من الإيرادات سنة 2018 جاءت من إيرادات المقاصة التي يجمعها الاحتلال الإسرائيلي ومن المنح الدولية؛ ما يشكل أداة ضغط هائلة عليها. أيضا فإن إسرائيل تهيمن على التبادل التجاري الخارجي للسلطة، فقد بلغ حجم استيرادها من إسرائيل حوالي 3.632 مليون دولار سنة 2018 بنسبة 55.5 بالمئة من مجمل وارداتها البالغة 6.540 مليون دولار، في حين بلغ حجم التصدير إلى إسرائيل 967 مليون دولار بنسبة 83.7 بالمئة من صادرات السلطة البالغة 1.156 مليون دولار.
وعلى صعيد الصراع الميداني، حسب التقرير أيضا، فقد “استشهد 314 فلسطينياً سنة 2018 وجرح 31.603 آخرين، وفي سنة 2019 استشهد 149 فلسطينياً وجرح 15.287 آخرين، في حين قتل من الطرف الإسرائيلي 14 سنة 2018 و9 سنة 2019”، أي بمعدل إسرائيلي واحد إلى عشرين فلسطينيا.
وعلى الصعيد السياسي، فإن مجمل المؤسسات الفلسطينية باتت تعيش شرعية متقادمة ومتآكلة، وهذا يشمل المنظمة والمجلس الوطني، كما يشمل السلطة والمجلس التشريعي ومنصب الرئاسة (آخر انتخابات لهما تمت في 2005 – 2006)، وليس ثمة في الأفق ما يوحي بإعادة بناء البيت الفلسطيني بكل أجنحته. في المقابل فإن إسرائيل تتجه نحو انتخابات ثالثة، لتجديد نظامها السياسي، ولتأكيد التداول على السلطة، هذا لا يعني أنها لا تعاني من أزمة، لكن ذلك يعني أن نظامها السياسي مرن ومنظم، بحيث يستطيع تجديد ذاته بكل سلاسة، في حين لا يستطيع الفلسطينيون إجراء انتخابات ولا حتى استعادة وحدة الكيان الفلسطيني بين الضفة وغزة، وحتى أن قرارات المجلس المركزي بشأن وقف التنسيق الأمني، ووقف اتفاقية باريس الاقتصادية المتخذة منذ 2015، والتي تم تجديدها في كل اجتماع، لم يتم الالتزام بها، في حين تواصل إسرائيل قضم الأراضي الفلسطينية وتكثيف الاستيطان وتعزيز هيمنتها الإدارية في الضفة.
مع كل ذلك فإن القيادة الفلسطينية لا تريد أن تراجع طريقها ومسيرتها رغم كل ما يحصل، بل إنها تستيقظ وتنام على قصة مقاومة “صفقة القرن”، علما أن تلك الخطة تطبق يوميا تحت ناظريها، فيما هي لم يبق لديها شيء لتفعله. تلك هي اللاعقلانية في السياسة الفلسطينية.