المعارضة التونسية والحكومة الإيطالية.. مكابرات لا طائل منها
لطالما أسفرت المكابرات الجوفاء عن نتائج مخيّبة، وبتنا نبكي على يوم كنا نبكي منه.. هذا ما علّمنا إياه التاريخ القديم والحديث ـ نحن العرب ـ ونحن نحيي هذه الأيام، ذكرى أليمة وقد أسميناها “نكسة حزيران 67”.
ولكي لا يتشعب الموضوع أكثر مما يجب، فإن زيارة رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني إلى تونس تشبه في استقبال بعض وسائل الإعلام للحدث ما يشبه لوم زائر وتقريعه وهو في بيتك، ويأتي ساعيا لإصلاح ذات البين، ودرء الصدع، وترميم ما يمكن ترميمه.
احتج العشرات من التونسيين في العاصمة التونسية رفضا للزيارة، وهذا حقهم، ويحدث في كل البلدان الديمقراطية.. ألم تُرفع عبارات عدم الترحيب في وجه مسؤولين عرب يزورون عواصم أوروبية في كل مرة؟
إلى هنا، يبدو الحدث عاديا، ولكن، من نحن كي نحتج على زيارة رئيسة حكومة قوة عظمى، وجارة تقف على الشواطئ الشمالية للمتوسط منذ ما يزيد على ألفي عام؟
نعم، نحن لسنا أقزاما وقد قارعناها وأوشكنا على هزيمتها منذ حضارة قرطاج بل واحتاجت إلينا في أحلك ظروفها فجابهنا جبروتها بمنتهى الندية كأفضل ما تكون المواجهة والملحميات التاريخية.
دعونا من التاريخ يا جماعة الخير، ولننس مآثره وانتكاساته القديمة والحديثة، من الحروب البونية إلى الحرب العالمية الثانية، وما فعلته إيطاليا الفاشية بالشقيقة ليبيا، وكذلك هزيمة محورها، أيضا على أرضنا في منتصف القرن الماضي.
نحن هنا والآن، وفي بلاد يهاجر منها المئات من الشبان كل يوم، ببشرتهم القمحية والسمراء، من سواحلها إلى أرض يظنونها بلاد السمن والعسل والميعاد.. وهذا ليس ذنب الإيطاليين بالتأكيد، لكن الحاجة حمّالة أوجه.
ما معنى أن ترفع في وجه شابة طموح في حياتها السياسية، شعارات من قبيل “أنت غير مرحب بك في تونس يا ميلوني” على درج المسرح الإيطالي في شارع بورقيبة أو المطالبة بـ”الحقيقة لأمهات المفقودين”، و”الكرامة للمهاجرين”، و”من أجل كشف مصير المفقودين”، في إشارة إلى قضية المهاجرين المفقودين من أولئك الذين ابتلعهم المتوسط؟
إشارة الاتهام هذه تشير بإصبع صريحة إلى جارنا الشمالي، لكنها غفلت عمّن صنع الأسباب وغفلت عن النوايا.
الجميع شارك في التراجيديا المتوسطية، وليس الوقت مناسبا الآن، للتراشق بالاتهامات، فأحسنوا استقبال من جاء إليكم يبحث عن الحلول، ويدعو لنسيان الماضي ومعالجة أزمات الحاضر.
ليس أسهل من أن تحمّل الأشرعة والمراكب مسؤوليتها للرياح.. وكم جميل أن ننسى الجراح.
جاءت جورجيا ميلوني إلى بلادنا في زيارة خاطفة انتقدتها عليها الصحافة الإيطالية، وتحفّظ عليها الكثيرون في الاتحاد الأوروبي، لكن هذه الشابة التي ابتسم إليها الرئيس التونسي قيس سعيد، كما لم يبتسم من قبل، أرادت أن تقول للاتحاد الأوروبي إن الشواطئ الأفريقية على مسافة بضع أميال منا، وينبغي إيجاد الحلول.
لا تبحث عن الحلول لمن لا يريد حلا، انس الشعارات وواجه الحقيقة مثل “غلادياتور” حقيقي في مسارح روما.. إنها الحقيقة التي أرادت أن تقولها فتاة إيطالية شقراء.. ولا تسأل عن أهوائها اليمينية.
سهلة هي الشعارات الاحتجاجية حول زيارة رئيسة الحكومة الإيطالية إلى تونس، وسهلة هي القراءات والأحكام من قبيل توصيفها بـ”اتفاقيات العار وغيرها”، لكن، ما نفع مشكلة دون حل؟
دعونا من أسهل اللغات وأيسر الشعارات المسمّاة بمنطق الرفض، ولنستقبل الذين جاؤوا ليحاورونا بأذرع مفتوحة، ودون غلق الأبواب غير الموجودة أصلا.
المبادرة التي تقدم بها الرئيس التونسي قيس سعيد إلى عقد مؤتمر رفيع المستوى بين كل الدول المعنية في شمال أفريقيا والساحل والصحراء من جهة ودول الشمال المتوسطي لمعالجة الهجرة غير النظامية، هي “نظامية” إلى حد بعيد، ومن شأنها أن تصحح المسار بدل الشعارات التي ترفعها المعارضة التونسية على أدراج المسرح الإيطالي المعروف بـ”المسرح البلدي” في شارع بورقيبة بالعاصمة تونس.
يقول المثل الشامي “تأكل العنب وإلا تقتل الناطور؟”.. نعم، يبدو أن بعض معارضينا في تونس يريدون قتل الناطور، مع الاستغناء عن العنب.. فلا هم تمكنوا من الناطور، ولا هم فازوا بالعنب وغنموه.. هم يحبون أن يجعلوا من كل اتفاق “عنبا حامضا” فيضرسون ونضرس معهم دون سبب.
جورجيا ميلوني أوضحت خلال زيارتها إلى تونس أن بلادها تقوم بخطوات “على المستوى الأوروبي ومجموعة السبع بإتباع نهج عملي، مع مراعاة منهج عمل صندوق النقد الدولي. معتبرة أن استقرار الوضع السياسي والأمني وتقدم الديمقراطية في تونس، أمر لا غنى عنه، فهل ما قالته رئيسة الحكومة الإيطالية أمر يُغضب المعارضة أو قيس سعيد، أم أن المسألة تتعلق بـ”عنزة ولو طارت”؟
المشكلة لدى المعارضات العربية، وفي مواقفها من الحكومات الأوروبية، أنها لا تضع نفسها محلها، ولا تقدر الواقع الاجتماعي والسياسي لتلك الحركات مكتفية بشعارات ذات صبغة تعبوية.
الأوروبيون بدورهم ينفخون في الكير، ويؤلبون الشعوب العربية عبر شعارات “انفخوا وشوف..” ثم من قال لنا إننا في موقع قوة كي نرفع اللاءات.