النفط الليبي وعبث السياسيين وأمراء الحرب

الحبيب الأسود

لا يمكن فصل الموقف الداخلي عن المواقف الإقليمية والدولية التي كانت تنظر دائمًا للنفط الليبي على أنه أهم من الدم الليبي. منذ العام 2011، كان الهاجس الأكبر بالنسبة إلى واشنطن وحلفائها هو كيف يستمر النفط في التدفق إلى الأسواق العالمية حتى وإن كانت إيراداته تذهب إلى جيوب أمراء الحرب ولصوص المال وديناصورات السياسة، وفق وصف المبعوثة الأميركية السابقة ستيفاني وليامز. لاسيما أن نهب النفط الليبي عملية مشتركة يستفيد منها من بأيديهم مفاتيح الحقول والموانئ ومسالك التوزيع والتهريب، ومن يقومون على توقيع الصفقات وجمع الإيرادات وتحصيل العمولات وتوقيع الاعتمادات.

في كل مناسبة تم فيها غلق الحقول أو الموانئ النفطية، كانت العواصم الغربية وفي مقدمتها واشنطن تتدخل بكل ثقلها لإقناع أصحاب القرار الميداني بإعادة فتح المنشآت مقابل تنازلات يحصلون عليها. في ما كان هناك دائمًا من يحمّل القبائل في مناطق الإنتاج مسؤولية الإغلاق، وينقل على ألسنة وجهائها تصريحات عادة ما تكون مملاة من هذا الطرف أو ذاك. في يناير 2020، وبالتزامن مع انطلاق مؤتمر برلين حول الأزمة الليبية، تم الإعلان عن إغلاق حقلي الشرارة والفيل الواقعين جنوب غربي البلاد، وذلك احتجاجًا على عدم اهتمام السلطات بالمنطقة الجنوبية، والمطالبة بالتوزيع العادل للثروة النفطية. وقال ناطق باسم المعتصمين إن إقفال حقلي الشرارة والفيل “أصبح واجبًا وطنيًا”، مندّدًا بعدم اهتمام الحكومات بالمنطقة الجنوبية التي تحتضن أكبر الحقول النفطية بالبلاد، وانعدام الخدمات الأساسية وغياب مقومات الحياة فيها من كهرباء وغاز وسيولة مالية ومستشفيات وأدوية، إلى جانب تدهور الحالة الأمنية التي نتجت عنها كثرة حوادث الخطف وتفشي الجريمة، مضيفًا أنه “لن يتم فتحها إلى حين تسليمها إلى أيادٍ أمينة”. في نفس الوقت، تولت قبائل من شرق وجنوب ليبيا إيقاف صادرات النفط من موانئ “البريقة وراس لانوف والحريقة والزويتينة والسدرة شرق البلاد”، احتجاجًا على استخدام حكومة الوفاق عوائد النفط لجلب ودفع رواتب المرتزقة السوريين من أجل قتل الليبيين، وللمطالبة بإنهاء الوجود التركي في ليبيا.

الشعارات المرفوعة من قبل المحتجين كانت هي ذاتها المرفوعة من قبل قيادة الجيش، وشكلت قوة ضغط لفائدة مشروع الجنرال خليفة حفتر الذي كان خارجًا لتوه من معركة طرابلس الدامية التي استمرت عدة أشهر، ووضعت أمام المجتمع الدولي معطى لا يمكن تجاهله في تقييم الوضع الليبي، وهو أن أهم الحقول والموانئ النفطية تقع تحت سيطرة قوات الجيش التي يتزعمها الجنرال، وأن لا مجال للسماح لسلطات طرابلس بالتصرف لوحدها في إيرادات النفط واستغلال جزء منها لجلب القوات النظامية التركية وفيالق المرتزقة السوريين.

استمر الوضع على ما هو عليه لمدة تسعة أشهر، وفي أواسط سبتمبر من ذلك العام، تم الاتفاق بين حفتر ونائب رئيس مجلس الوزراء بحكومة الوفاق أحمد معيتيق حول استئناف إنتاج النفط من الحقول الليبية، وتشكيل لجنة فنية مشتركة لتوزيع إيرادات النفط بشكل عادل. كانت المؤشرات تدل آنذاك على أن التوصل إلى الاتفاق في موسكو تم بدعم مباشر من واشنطن، وبتداخل من قوى إقليمية ودولية يهمها جدًا أن ترى النفط الليبي يتدفق في الأسواق العالمية.

في العام 2022، أعلنت المؤسسة الليبية للنفط في مناسبتين عن اللجوء إلى اعتماد مبدأ “القوة القاهرة” في التعامل مع إغلاق موانئ نفطية بشرق البلاد، وقالت إن الخسائر الناجمة عن الإغلاقات المعلنة في شهر يوليو تجاوزت 3.3 مليار دولار. كان الهدف آنذاك الضغط على المجتمع الدولي لإقناع رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة بالتخلي عن منصبه بعد أن فقد الشرعية التي جاءت به إلى الحكم في فبراير 2021 من خلال عملية انتخابية داخلية بين أعضاء ملتقى الحوار السياسي أحاطت بها شبهات الفساد وشراء ذمم الناخبين بمبالغ مالية وصلت إلى الملايين من الدولارات.

في يوليو 2023، أعلن عن إيقاف الإنتاج في حقول الفيل والشرارة و108، جنوب البلاد، ردًا على توقيف وزير المالية السابق فرج بومطاري بالعاصمة طرابلس. ونشر المحتجون بيانًا مصورًا في الحقل 108 النفطي، هددوا فيه بتصعيد الوضع إلى أكثر من ذلك إذا لم يتم الإفراج عن بومطاري، لكنهم عادوا بعد أيام وفتحوا تلك الحقول بعد أن أفرجت السلطات في طرابلس عن الوزير المعروف بقربه من حفتر والذي كان مرشحًا محتملاً لمنصب محافظ مصرف ليبيا المركزي.

الفترة الأطول لإغلاقات قطاع النفط، كانت ليبيا قد عرفتها ما بين يوليو 2013 وسبتمبر 2016، وكان يقف وراءها إبراهيم الجضران الذي نصّب نفسه آمرًا لجهاز حرس المنشآت النفطية، وطالب بالمزيد من الحكم الذاتي للمحافظات الشرقية التي تضم حقول النفط الغنية. في عام 2013، أنشئ المكتب السياسي لبرقة وأمّن السيطرة على الموانئ النفطية الشرقية. في 2014، حاول الجضران بيع النفط بمعزل عن الحكومة المركزية، لكن الموقف الأميركي الحازم حال دون ذلك، وقرر مجلس الأمن الدولي إضافة اسمه إلى قائمة العقوبات الدولية، بتهمة القيام بأعمال تزعزع أمن ليبيا واستقرارها، وتخرق قرارات المجلس. وشملت العقوبات تجميد الأصول المالية له، وحظر السفر، بموجب مواثيق الأمم المتحدة، وقرار المجلس 1970 لسنة 2011.

 

تصرفات الجضران وميليشياته المسلحة أدت إلى خسائر فادحة تكبدها الاقتصاد الليبي، وقدرتها جهات رسمية بما لا يقل عن 150 مليار دولار، كما تسبب في ضرب الثقة بين مؤسسة النفط الليبية والشركات التي تستورد النفط الليبي، فضلاً عن خسائر وأضرار فنية كبيرة وقعت في المنشآت والحقول.

منذ أيام قليلة، قالت وسائل الإعلام المحلية والدولية، إن محتجين محليين من إقليم فزان، أغلقوا حقل الشرارة النفطي الواقع جنوب غربي ليبيا، احتجاجًا على تردي أوضاعهم المعيشية وتغييبهم من خطط التنمية التي تنفذها السلطات التنفيذية، إلا أنه لم يتم تأكيد إغلاق كامل للحقل في حينه. حكومة مجلس النواب برئاسة أسامة حماد التزمت الصمت في ما وصفت حكومة الدبيبة عملية الإغلاق بالابتزاز السياسي، تأكيدًا منها على ما راج على أكثر من صعيد من أن رئيس أركان القوات البرية صدام حفتر صاحب النفوذ الميداني الواسع في جنوب ليبيا هو من أمر بالإغلاق على إصدار القضاء الإسباني مذكرة ملاحقة بشأنه بشبهة تهريب شحنة سلاح.

الليبيون يعلمون قبل غيرهم، أن لا أحد يستطيع الاحتجاج أو حتى محاولة الاقتراب من المنشآت النفطية إلا بضوء أحمر من قيادة الجيش وخاصة في مناطق نفوذها الواسع، وأن كل من رفعوا أصواتهم بما يخالف إرادة الجنرال وأبنائه كان مصيرهم في أفضل الحالات السجن. ولذلك فإن الحديث عن احتجاجات لدوافع اجتماعية كانت وراء إغلاق حقل “الشرارة” يعتبر نوعًا من الاستبلاه لعقول المراقبين، وضحكًا على ذقون الجميع بمن فيهم المشاركون في المسرحية.

لا تزال ليبيا تحتاج للعودة إلى وضعية الدولة القادرة على تأمين مقدراتها من عبث السياسيين في ظل استمرار الأزمة المتفاقمة منذ دخول البلاد حالة الانقسام في العام 2014. وهي اليوم تمر بظروف صعبة نتيجة وجود مراهقين سياسيين يتقمصون أدوار الدكتاتوريين الناشئين على رأس السلطة، وإن حاولوا التظاهر بعكس ذلك أو بغيره. فالدولة والمجتمع والثروة والمقدرات والسلاح كلها أدوات في أيادي المتحكمين في أوضاع البلد الثري في شمال أفريقيا، والنفط ليس استثناء، وإنما هو أساس الصراع الداخلي والخارجي، ومصدر النزاعات والسبب الأصلي لديمومة الأزمة واستمرارية الانقسام، لاسيما بعد أن نظر إليه الفرقاء الأساسيون على أنه غنيمة حرب واعتبروه رزقهم الخاص ورزق أبنائهم وأحفادهم والمقربين منهم والمحسوبين عليهم في دوائرهم الضيقة. وفوق ذلك فهو ورقتهم الفارقة للضغط من أجل ضمان مصالحهم في كل حوار مع المجتمع الدولي أو مساومة مع العواصم الإقليمية والدولية. إنهم يعرفون جيدًا أن من يمتلك ورقة النفط هو صاحب القرار الحقيقي الذي لا تلوى العصا في يده.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى