النهضة وسيناريو التحالف مع “النداء” الجديد
أمين بن مسعود
لن نُجانب الصواب إن قلنا إنّ تصويت حزب قلب تونس لصالح مرشح حركة النهضة راشد الغنوشي لرئاسة البرلمان، يمثل حدثا سياسيا هامّا، قد يحمل في طياته تداعيات وانعكاسات على المشهد السياسي في تونس، ولاسيما في ما يتعلق بتشكيل الحكومة القادمة وبطبيعة التوافقات في البرلمان وخارجه أيضا.
صحيح أنّ حركة النهضة وعلى لسان القيادي عبدالكريم الهاروني، تؤكّد أنّ التقاء النهضة وقلب تونس في المسار البرلماني من خلال التوافق على رئاسة البرلمان، لا يعني بالضرورة الالتقاء في المسار الحكوميّ، لكن الفصل بين منظومة الحُكم في صيغتها التشريعية وبين تشكيل الحكومة، لاسيما وأنها تجسيد طبيعيّ لتوافقات البرلمان، من الصعب هضمه والاقتناع به.
تؤكّد المصادر السياسيّة داخل حركة النهضة وقلب تونس، أنّ جبل الجليد بين الحزبين آخذ في التلاشي والانهيار، ليس فقط لأنّ النهضة وجدت نفسها حيال “ضرورة التحالف” مع قلب تونس بعد استعصاء التيار الديمقراطي وحركة الشعب عليها، بل أيضا لأنّ خيار إعادة الانتخابات البرلمانية يجسّد كابوسا سياسيا وانتخابيا للحركة التي تستعدّ لمؤتمرها القادم.
إلا أنّ الثابت في هذا التقارب بين النهضة وقلب تونس أنّه لا يزال في خطواته الأولى وفي مرحلة تحسّس حقول الألغام السياسية الكثيرة، ولاسيّما أنّ المشهد السياسي التونسي القائم محكوم حاليا بـ”منطق الخيارات المتناقضة” حيث يفرض التحالف مع طرف استبعاد آخر، والعكس صحيح.
ولئن اتّضح جليا من خلال التصويت لصالح راشد الغنوشي وسميرة الشواشي، أنّ الكثير من الفيتوات قد تسقط بمقتضى الإكراهات والضرورات، فمن المناسب القول أيضا إنّ التفاهمات على الحكومة القادمة تحتاج إلى توافقات أعمق وأكثر اتساعا قد تتجاوز كثيرا التفاهمات على رئاسة رمزية للبرلمان.
وبعيدا أيضا عن المنطق الحسابيّ، الذي قد يضعنا ضمن مقاربات كميّة تضيع من بين ثناياها وحيثياتها حسابات الفاعل السياسيّ وضرورات الواقع، فإنّ مُشاورات تشكيل الحكومة دونها الكثير من المطبّات والعراقيل، التي قد تكون جلسة انتخاب رئاسة البرلمان قد خففت من وطأتها نسبيّا.
لعلّ من بين هذه المطبّات استعصاء الجمع بين “الخطّ الثوري” في شكليه، التيار الديمقراطي وحركة الشعب، مع قلب تونس، وصعوبة التقريب بين قلب تونس من جهة و”ائتلاف الكرامة” من جهة ثانية، إضافة إلى استحالة الجمع بين “الحق الدستوري” لتشكيل النهضة للحكومة وترؤسها وبين مطالب الكتل البرلمانية الأخرى.
وإذا أضفنا إلى هذا الواقع المتشعّب، الرفض المطلق الذي تبديه المنظمات الاجتماعية مثل اتحاد الشغل بصفة خاصة واتحاد الصناعة والتجارة بصفة أقلّ، ضدّ المُشاركة الفعلية لائتلاف الكرامة في الحكومة المقبلة، وهو فيتو لا يمكن لحركة النهضة تجاوزه كليا أو نسبيا، فإنّ السيناريوهات والبدائل تضيق أمام الحركة بشكل كبير.
وهُنا تظهر ثلاثة سيناريوهات/ فرضيات لحركة النهضة باعتبارها الفائزة في الانتخابات البرلمانية:
أوّلا: أن تعلن تنازلها عن رئاسة الحكومة وتبدأ في مشاورات جديدة مع التيار الديمقراطي وحركة الشعب وتحيا تونس وائتلاف الكرامة وبعض المستقلين، مستفيدة من وضعية انتخاب الغنوشي وملوّحة بإمكانية الانخراط في الخيار الثاني مع تحميل المسؤولية للتيار الديمقراطي وحركة الشعب.
ثانيا: أن تعلن تبنيها لحكومة مصلحة وطنية أو تكنوقراط، تحظى بشرعية برلمانية واسعة وتوافق منظماتي عريض، وتخرج بالتالي النهضة من فرضيات “حكومة الأقليات” أو إكراهات “حكومة الرئيس”، أو كابوس الانتخابات السابقة لأوانها.
ثالثا: أن تبني النهضة على التصويت الحاصل لفائدة الغنوشي والشواشي، وتبني عليه ليس فقط توافقا مع قلب تونس، بل مع روافد النداء الجديد، حيث المُشاورات القائمة بين قلب تونس وتحيا تونس وكتلة الإصلاح الوطنيّ، وهو تحالف إن صحّت تصريحات القيادي في تحيا تونس المهدي عبدالجواد، فسيحصل على 72 مقعدا.
الخيار الأرجح والأنسب لحركة النهضة، يكمن حاليا في المُساهمة في إحياء هذا الجسم البرلماني الجديد، ليس فقط لأنّه أكثرية عددية قد تساعدها في المُصادقة على الحكومة، بل لأنه سيكون استمرارا نسبيّا للتحالف مع “نداء الشاهد” ومع العائلة الوسطية التي تجد فيها النهضة دائما “درع الوِقاء” الداخلي و”الواقي” الخارجي.
تصريحات السيد المهدي عبدالجواد لصحيفة محلية، تؤكّد استعدادا أوليا من تحيا تونس ومن العائلة الندائية الموسعة، لشيئين مهمين للغاية، الأوّل تجاوز الإشكاليات العويصة ما بين قلب تونس وتحيا تونس، وردّ الأمر برمته إلى القضاء، والثاني التقارب مع النهضة في المُشاورات الحكومية ورفض مبدئيّ “للحكم فوبيا” المُعلن من بعض الكتل البرلمانية.
تُدرك حركة النهضة أنّ العودة إلى “النداء الجديد”، يعني تجرّع كأس السمّ، حيث الانقلاب الممجوج على خطاب “التيار الثوري” الذي انقلب على خطاب التوافق مع السبسي، الذي انقلب بدوره على خطاب الثورة الوليدة في 2011، وأيضا حيث “الخيانة الرمزية” لعشرات الآلاف الذين أخذوا من النهضة موثقا بعدم التحالف مع “ممثلي الدولة العميقة”، الأمر الذي يضع فخاخا أمام الحركة وقيادتها ومستقبلها، لاسيما وأنها على أبواب مؤتمر انتخابي.
غير أنّها في المُقابل، سترسل رسائل لأنصارها بأنّ توافق الضرورة جاء بعد صدّ من التيار الثوريّ، وهي محقة نسبيا في هذا الأمر. والأهمّ من هذا أنها ستزيح عن ظهرها “حليفا ثقيلا”، اسمه ائتلاف الكرامة، يصلح للمعارضة أكثر من الحكم. وهي في كلّ الحالات تفكر بشكل ذكي في مُعارضة برلمانية بأسها بينها شديد أكثر من بأسها على الحكومة.
بوصول الغنوشي إلى رئاسة البرلمان، ستتحرّك جزر برلمانية وستتقارب بعض التكتلات وتتباعد أخرى، وستتساقط فيتوات انتخابية بالأساس لا تُقاوم كرسي الحكم ولا تقوى على الواقعية الانتخابية والسياسية.