الهبوط التركي الناعم في الصومال
محمد أبو الفضل
أصبحت عبارة الهبوط الناعم تستخدم في الأدبيات السياسية العربية كدليل على تسلل بعض القوى والجماعات والدول بهدوء، وهو مؤشر على عدم جدوى التدخلات الخشنة التي تؤدي إلى صدامات أمنية أو سياسية، أو الاثنين معا.
راجت العبارة السابقة في السودان أخيرا كعلامة على الشكوك السياسية المتزايدة في نوايا الجيش واتهامه من جانب قوى مدنية بالسعي نحو تهيئة الأجواء لينشب فلول نظام الرئيس السابق عمر البشير مخالبهم في السلطة بلا انقلاب عسكري جديد.
تنطبق هذه العبارة على ما يقوم به النظام التركي في الكثير من المناطق بعد إعلانه التخلي التكتيكي عن توجهات إقليمية قادت إلى العديد من الاشتباكات السياسية والإعلامية والعسكرية وكادت تكلّف أنقرة خسائر باهظة، ما دفعها إلى انحناءة أدت إلى انفتاحها على كل من إسرائيل والسعودية والإمارات ومصر مؤخرا.
لم تغير الانحناءة العامة في تصرفات تركيا حيال سوريا والعراق وليبيا وإيران وإثيوبيا والصومال وخلافاتها في شرق البحر المتوسط، فقط أدخلت تعديلات واستبدلت العداء السافر بمرونة نسبية وتبقى النتيجة واحدة.
ظهرت سياسة الهبوط التركي الناعم الجديد في حالة الصومال، فمع أنها فقدت رجلها محمد عبدالله فرماجو في الانتخابات التي جرت في مايو الماضي، إلا أن استدارتها لم تأخذ وقتا مع خليفته حسن شيخ محمود الذي خبرته جيدا خلال فترة رئاسته الأولى، وربما تكون العلاقات معه أشد وثوقا.
تؤكد الزيارة التي بدأها الرئيس الجديد إلى أنقرة الأحد ونوعية اللقاءات التي عقدها والاتفاقيات التي توصل إليها وأخذت غالبيتها مناحي بعيدة عن النواحي العسكرية واختيار تركيا كمحطة ثانية، بعد الإمارات، في أول جولة خارجية له أن الطريق ممهد أمام تركيا للمزيد من التوغل الفترة المقبلة.
تدرك أنقرة أهمية الصومال كموقع جغرافي متميز يقع في منطقة القرن الأفريقي وعلى الحافة الجنوبية من شبه الجزيرة العربية، وهو ما دفعها للالتفات لهذه البقعة مبكرا ووضعت فيها أهم قاعدة عسكرية لها، ونسجت شبكة من العلاقات مع معظم القيادات السياسية في العاصمة مقديشو والأطراف، فضلا عن روابط خفية مع قوى إسلامية تلعب دورا حيويا على الساحة الصومالية.
مالت التوليفة التي حبكتها أنقرة إلى الشق الأمني الذي حقق غرضه الفترة الماضية من حيث ضمان وجودها في قلب المشهد العام، والآن بدأت تستثمر ما زرعته مع تبديل في تصوّراتها، ولجأت إلى توظيف الأدوات التي راكمتها السنوات الماضية، مستفيدة من زهد بعض القوى الإقليمية والدولية في الصومال واليأس من إصلاح أوضاعه لتعزز مكانتها، وظهر ذلك في الاستقبال الحافل للرئيس شيخ محمود في أنقرة.
تعاملت الكثير من القوى التي وضعت بصرها على الصومال بالقطعة، عندما تتزايد التحديات التي تهدد مصالحها تضاعف وجودها الأمني أو الاستخباراتي أو الاقتصادي، وإذا تلاشت التهديدات المباشرة رفعت يديها عنه أو أبقت إحداها فقط.
تجلّت ملامح هذه السياسة في منهج الولايات المتحدة التي تدخلت عسكريا في هذا البلد منذ ثلاثة عقود ثم انسحبت بعد تعثرها الفاضح، ثم اختارت وضع نواة لوجود عسكري نوعي تخلت عنه وفضلت العمليات العسكرية الانتقائية التي تستهدف قادة المنظمات الإرهابية، في مقدمتها حركة الشباب، وأخيرا قررت واشنطن إعادة التمركز عسكريا بصورة رمزية في الصومال.
مرت قوى إقليمية عدة بمراحل متذبذبة من التدخلات المباشرة في الصومال، أبرزها إثيوبيا وأوغندا، لكن لم ينخرط كلاهما بشكل متشابك ويطوي تحته كل أنواع التدخلات العسكرية والسياسية والاقتصادية، كما فعلت تركيا، وحتى الدول العربية المؤثرة التي لها مصالح كبيرة في الصومال، مثل مصر والسعودية والإمارات، لم يناهز وجودها المتعدد ما تقوم به تركيا في أوج مراحل الغليان الإقليمي معها.
ترتاح الدول الثلاث للتهدئة الظاهرة حاليا مع أنقرة، غير أن الهواجس لن تختفي لأن كل القوى المعنية بالصومال يتزايد ويتراجع نفوذها في هذا البلد الحيوي المنكوب إلا تركيا، حيث تمتلك خططا يمكن أن تدخل عليها تعديلات، لكن الاستراتيجية الرامية إلى التمركز تظل على حالها.
أيقنت أنقرة أن المناكفات المستمرة لم تحقق لها كل ما تريد من تمركز في المناطق التي تراها تمثل أهمية فائقة وقررت استبدالها بأسلوب أخف وطأة على من تعاملوا معها كجهة طامحة وراغبة في تمديد نفوذها داخل محاور مختلفة، وأقل إزعاجا لقيادات الدول التي تريد أن يكون لها دور مؤثر فيها على المدى البعيد.
تشير حالة الصومال إلى أن دولا مثل مصر والسعودية تمكنها الموافقة على معادلة ناعمة وتقبلها على المستوى الاستراتيجي وترفض كل معادلة تنطلق من أبعاد عسكرية، من هنا انتبهت أنقرة إلى هذه المسألة وتحاول تطبيقها في الصومال، خاصة أنها القوة الإقليمية الوحيدة التي نجحت في إيجاد نفوذ لها على الأرض في دولة شبه منهارة ولها أذرع في مناطق متعددة بها وروابط مع غالبية الأقاليم والجماعات المتقاتلة، ما يمنحها ميزة نسبية للانفتاح على الجميع.
حققت تركيا نوعا من التوازن والحضور في الصومال يمكن أن يؤدي إلى المزيد من التوسع إذا لم تجد قوى منافسة تستطيع تحجيم أدوارها، لأن ما تقوم به أنقرة لا يعتمد على الشق العسكري الذي يمثل قلقا لبعض القوى ويستنفرها في لحظة معينة للحد منه أو على الأقل وضع العثرات في طريقه ما يمنع تضخمه.
استفادت تركيا من خبراتها وقد تفاجئ الدول العربية التي دخلت معها في تهدئة بتصاعد نفوذها في الصومال بفعل تنوع الأدوات التي تستخدمها وقدرتها على التغلغل بسهولة، وساعدها توطيد العلاقات مع معظم الأطياف المؤثرة بالصومال في الحكم والمعارضة على زيادة فعاليتها على الأرض.
ما يجعل الهبوط التركي الناعم في الصومال أكثر ضراوة أنه ينمو منفردا ويفتح المجال أمام أنقرة لتوسيع النفوذ على دول أخرى مجاورة، فلا يهمها استقرار الصومال أم لا، فالمهم تثبيت قدميها والحفاظ على مصالحها، فالبلد الذي تأقلم مع الحرب الأهلية حوالي ثلاثة عقود يصعب أن يسترد عافيته أو لحمته الوطنية في المدى المنظور.
تجد أنقرة فرصة في تحقيق طموحاتها بهذا النوع من الدول، وكل تدخلاتها الخارجية تنصبّ عليها، حيث توفر لها السيولة السياسية والأمنية المجال لتحقيق أهدافها، وقد تكون تركيا أكثر الدول تعاسة إذا شهد الصومال قدرا من الاستقرار، فوقتها لن يكون الهبوط الصلب أو الناعم مجديا والمنافسة سوف تصبح محتدمة مع قوى أخرى.