“الورقة” الدرزية

زياد بركات

أسوأ ما يمكن أن يحدُث للسوريين الدروز أن يصبحوا مجرّد ورقةٍ في لُعبة أكبر منهم، والأسوأ في ما يخص المنطقة بأسرها أن تنجح إسرائيل في تحويل دروز العالم، وليس في سورية فقط، قوميةً وليس أقلّيةً دينية، وهو ما حذّر منه قبل أيام الزعيم اللبناني الدرزي، وليد جنبلاط، في ذكرى اغتيال والده.

ومعلوم أن إسرائيل وباكستان هما الوحيدتان في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية اللتان تحوّلتا دولتين و”قوميَّتين” على أساس ديني لا عرقي، وستظلّان حالةً شاذّةً رغم أنهما نجحتا في ذلك، لكن هذا يُفسّر (من بين أسباب أخرى أكثر تعقيداً) عزل إسرائيل منذ الدقيقة الأولى دروز فلسطين عن بقيّة سكّانها، ووضع الخطط لتجنيدهم في جيشها، بالترهيب حيناً والإغراءات أحياناً أخرى، وبدفع قوي وخطط متدرّجة وضعها ديفيد بن غوريون نفسه.

وإذا كانت قد نجحت في هذا، في حالة شعبٍ يرزح تحت أسوأ احتلال وأطوله في التاريخ المعاصر، فهذا لا يعني نفاذ خططها بخصوص السوريين الدروز في أيامنا هذه، فثمّة فرق بين الهواجس والمخاوف المضخّمة، جرّاء عقود من المظلوميات التي خلّفها وراءه نظام آل الأسد، وهي تشمل دروز سورية وسُنّتها وعلوييها، وحتى معمارها وأزقّتها الضيّقة إذا شئت، ونقل هذه المظلومية إلى منطقة أخرى خارج التيّار العامّ لنضالات السوريين في عمومهم، للوصول إلى دولةٍ حديثةٍ ومعاصرةٍ تقوم على مفهوم المواطنة، وهو ما تيسّر بفرار المخلوع الذي بطش بدروز بلاده واستغلّهم ووظّفهم، واغتال من اغتال منهم، ممّن رفضوا الاندراج في خططه القائمة على تخويف الجميع من الجميع لينتهي كلّ القمح إلى بيادره هو.

وما تُعنى به إسرائيل عملياً، وبعيداً من أيّ أوهام قد تراود بعض السوريين، من دروز أو سواهم، هو إقامة مناطق عازلة، جدران من نار تعزلهم عن خطرٍ تراه محدقاً حتى لو بعد ألف عام، ومن شأن تحريض السوريين الدروز (وهذا مستبعد) إنشاء كانتون عازل في حدودها مع سورية، ولكن فكرةً كهذه يكتنفها كثير من التعقيدات، خاصّة أنها قد تعني وضع اليد على محافظة بحجم درعا ومساحتها، وهي بلغة الأقلّيات سُنّية، وتتفوّق عدداً على المناطق الدرزية كلّها، بلغة الأقلّيات ومنطقها (المرفوض في كلّ حال وتحت أيّ ظرف)، وهو ما يُشكّل خطراً على دول المنطقة وأمنها، خصوصاً الأردن ولبنان وتركيا، فأيُّ لعبٍ بالخرائط يفتح صندوق باندورا، حيث الشرور لا تعرف صديقاً.

ثمّة مشكلات كُبرى في سورية ما بعد المخلوع، منها الأوضاع الاقتصادية، وثلاثة أرباع ما يؤرّق دروز السويداء السوريين هو تدهور أوضاعهم المعيشية، وهو ما سبّب تحوّل مواقف بعض قادتهم في السنوات الماضية لحكم الأسد، ومنهم الشيخ حكمت الهجري نفسه، الذي كان مؤيّداً، وآخرون ممّن كانت مخاوفهم من “الجماعات المسلّحة” تتقدّم لديهم على معارضتهم الأسد.

ومع غياب الأخير، الذي يقيم في جنّة المنفى الروسي، وليس في سجون بناها نظامه، ومجيء نظام جديد، فإن من شأن تحسّن الأوضاع الاقتصادية، وقيام العهد الجديد بتبديد المخاوف جدّياً، قطع الطريق على مخطط كبير لا يوجد، حتى اللحظة، درزيٌ واحدٌ يتمتّع بتاريخ شخصي يُعتّد به مستعدّ للقبول به.

ما تحتاج إليه سورية ورشة طمأنة كبيرة وشاملة، وقطيعة مع ذهنية الأقلّيات نفسها، التي قد تهدر فرصة بناء سورية أخرى، معافاة، قوية، ذات وزن في المنطقة، بما تزخر به من طاقات وإبداعات قلّ نظيرهما. والمأمول أن تنجح سورية في ذلك على صعوبته، خاصّة أن العهد الجديد “طرفٌ سابق”، وصحيحٌ أنه ناضل وكافح وقاتل نظام الأسد، لكنه كان أيضاً جزءاً من مصادر مخاوف بعض السوريين من مستقبل صعب ينتظرهم، وهو ما استثمر فيه نظام الأسد الذي وضع السوريين أمام معادلة نظامه أو الإرهاب، ودفع كثيرين من معارضيه إلى العضّ على أسنانهم الدامية والركون إلى الصمت، ومن بين هؤلاء سُنّة وشيعة ودروز وعلويون ومسيحيون، ونحن نتحدّث هنا عن مواطنين دفعهم النظام إلى قتل بعضهم بعضاً، وخوف بعضهم من بعض، وفخّخ حتى أحلامهم بمخاوف تنهار بين ليلة وضحاها لو أقلعت السفينة وتحسّنت أوضاع الناس، وتمتّع الحكم ببعض الرشد ليس أكثر، والظنّ أنه يسعى ويفعل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى