انتخابات تونس بين «الشخصنة» والبرامج
اياد أبو شقرا
ربَّما كانت تونس وحدها بين دول «الربيع العربي»… استطاعت التحكم في إيقاع التغيير من دون تحوّلات راديكالية أو انزلاق لحروب يتعذّرُ تخمين مآلاتها.
ولدى مراجعة التجربة التونسية منذ الاستقلال، يجوز القول بثقةٍ إن القيادات التونسية المتعاقِبة، رغم تناقضاتها وأخطائها المتعددة والمختلفة، احترمت المبادئ والمؤسسات الضامنة لسلامة المجتمع المدني وتحصينه، وعلى رأسها: الدولة المدنية (على غموض هذا التعبير)، والنأي بالمؤسسة العسكرية عن السياسة المحلية كي تبقى سياجاً لحماية الوطن، والحق في الانتظام بالنقابات والتنظيمات السياسية.
حكم «المجاهد الأكبر» الحبيب بورقيبة كان له الفضل الأساسي في بناء الدولة المدنية على قاعدة صلبة. وتمكنّت البورقيبية من السير قدماً بتونس… حتى عندما اصطدمت محاولة بورقيبة تعميم تجربته بجدار عالم عربي عاطفي، منقسم على نفسه، يعيش أحلام «القومية» و«الوحدة من المحيط إلى الخليج» و«مجالس قيادة الثورة» و«تحرير فلسطين… الآن الآن وليس غداً».
سباحة بورقيبة عكس التيار، عربياً، لم تؤدِّ إلى انكفائه نحو تعميق تجربته التونسية فحسب، بل تسبَّبت في إدانة كل من حاول – ولو للحظة – إجراء مراجعة للواقع العربي، والتفكير بما تحقق على الأرض بعيداً عمّا شحنته في العقول والقلوب «ماكينات» الإعلام الحزبي أو «التحزُّبي»… حيث يهيمن «الحزب الواحد» القائد.
وبالنتيجة، لم يصحُ الإنسان العربي على الواقع إلا في أعقاب هزيمة يونيو (حزيران) عام 1967، عندما ظهر الفراغ المُخيف.
مع هذا، ورغم «الصحوة» التي تسبَّبت بها الهزيمة، تأجل الانصراف إلى التفكير العقلاني لبعض الوقت، لأن البديل الجاهز لهزيمة الأنظمة كان إعلان «حرب التحرير الشعبية». وبالفعل، أدى تراجع صدقية الأنظمة وسقوط – أو إسقاط الرهان على – قدراتها إلى «تقديس» العمل الفدائي، وتوافد في ظل الثنائية القطبية العالمية آلاف الشباب العربي المُحبط الغاضب على المنظمات الفدائية الفلسطينية، تلفه الآيديولوجيات القومية والشمولية.
وهنا وقع إشكال جديد. وقع إشكال التعايش بين منطق «الدولة»، الذي حافظت عليه تونس، ومنطق «الثورة» الذي جرف حتى المؤتمَنين على «الدولة» في المشرق العربي. بل، أكثر من هذا، سعت بعض الأنظمة إلى ادعاء «الثورية» من أجل تحويل «دولها» إلى إقطاعيات، والإمعان في ادعاء العروبة بينما كانت تكرّس طغيان الطائفية والعشائرية، والمزايدة «اشتراكياً» في وقت تحوّل طُغمها إلى «مافيات» وحيتان مالٍ فاسدة.
استمر هذا الوضع المأساوي حتى نهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وخروج مارد «الدين السياسي» بديلاً لليسار في أوروبا وخارج أوروبا.
في تونس البورقيبية كان «المجاهد الأكبر» قد أصبح خيالاً لما كان عليه، مع أن القاعدة الصلبة لتجربته احتفظت بصلابتها إلى حد بعيد. وحتى عندما جاء زين العابدين بن علي، رجل الأمن والجيش، ليفرض تقاعد بورقيبة من أجل «المحافظة على البورقيبية»، فإنه عجز طيلة نحو ربع قرن عن هزّ أعظم منجزات البورقيبية؛ أي: الدولة المدنية، وإبقاء العسكر بمنأى عن السياسة، واحترام حق التجمع والتنظيم النقابي والحزبي.
ومثلما ارتكب بورقيبة خطيئة البقاء في السلطة لفترة أطول مما ينبغي، فسمح لهالته بأن تغطَّي تدخّلات المقرّبين منه ومن أسرته في شؤون الحكم، انزلق بن علي ليس فقط للمحسوبية العائلية، بل لمحاولة إضعاف الحراك السياسي والتضييق عليه.
ولكن لئن كان بورقيبة قد استفاد من «كاريزميته» وإرثه الاستقلالي وحنكته في ممارسة اللعبة السياسية ليحافظ على «شرعية» حكمه، جاءت محاولات بن علي جافّة، وفي بعض الأحيان خرقاء… أفقدته تدريجياً زمام المبادرة، وجمّعت القوى السياسية المتناقضة المشارب ضده.
ومن ثم، في أواخر عام 2010 ومطلع 2011 وقعت الانتفاضة الشعبية إثر شرارة إحراق محمد البوعزيزي نفسه، ورفض المؤسسة العسكرية، بالذات، الوقوف مع الرئيس العسكري ضد تحرُّك الشارع. يومذاك، احترم بن علي نسيج تونس، وقرّر أن وحدة الوطن وسلامة المواطن أثمن من السلطة، فتنحّى وغادر.
اليوم الطيف السياسي الذي يمثله ما لا يقل عن 26 مرشحاً رئاسياً، يشكِّل – رغم الشوائب – شهادة مهمة لصالح تونس… بوجود أمن شبه ممسوك، ونقابات متحرّكة، وامرأة واثقة من نفسها، وأحزاب متعدّدة البرامج، ونقابات تعني للناس شيئاً، وقضاء ضامن لسلامة العملية الانتخابية.
ثم إنه، منذ تنحّي بن علي في مطلع 2011، جرّبت رموز متعدّدة من الطيف السياسي حظها في السلطة على امتداد 8 سنوات، فجاء الدكتور المُنصف المرزوقي إلى الرئاسة ممثلاً اليسار والتيار القومي، وتولّى إسلاميّو «حركة النهضة» ممثلين بحمّادي الجبالي وعلي العريّض رئاسة الحكومة، خلفهما المستقلان مهدي جمعة والحبيب الصيد، ثم استعادت «البورقيبية» دورها مع الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي أحد وجوهها التاريخيين، الذي تسبَّبت وفاته بالدعوة للانتخابات الرئاسية المبكرة هذا الشهر، وفي عهده عيّن رئيساً للحكومة يوسف الشاهد «ابن» تياره السياسي قبل انقلابه عليه. وبمواكبة كل هذه التعدّدية – الفوضوية والانتهازية أحياناً – مورست السياسة، وعُقدت التحالفات، ونُظمت الخلافات.
اليوم، أمام العد التنازلي للانتخابات الرئاسية المبكّرة، تبدو الساحة التونسية – رغم عديد المشاكل – صحيّة بتنوعها وتناقضاتها ورهانها على التعايش، من دون التشكيك بهوية الوطن أو منسوب الولاء له.
في تونس، بالأمس كما اليوم، إجماع على قضايا وأمور لا إجماع عليها في معظم الدول العربية. وهذا، رغم أبواب الجحيم المفتوحة على حدودها الشرقية في ليبيا… والمَخاض التاريخي المهم على حدودها الغربية مع «شقيقتها» و«جارتها» الكبرى الجزائر.
هذا الإجماع ظاهرة تشجّع على التفاؤل الحذر بألا يتحوّل الاختلاف إلى خلاف، وتتطوّر المعارضة إلى إقصاء، والفوز إلى إلغاء. وكذلك، إدراك أن أعظم ما تقدّمه الديمقراطية، في كل مكان من العالم، هو فرصة إصلاح الأخطاء بعد وقوعها… وليس تفادي الأخطاء.
أمام الناخب التونسي اليوم، وهو ينظر إلى جمهرة المرشحين و«زحمة» البرامج… أن يهنئ نفسه أولاً، وأن يبني خياره على البرامج الواقعية… لا الشخصنة. لأن البرامج هي الكفيلة بمعالجة التحديات التي تواجه البلاد… من علاج الاقتصاد المتردي إلى تحصين الأمن والاستقرار.
نحن ما عدنا في عالم تحكمه شخصيات تاريخية، رغم محاولات الساسة «الشعبويين» إقناعنا بعكس ذلك.