انفراد الدبيبة بالحكم في طرابلس ينذر بتقسيم ليبيا
الحبيب الأسود
أعطت قمة الجزائر للأطراف الليبية ما تشتهي سماعه على غرار “التضامن الكامل مع الشعب الليبي، ودعم الجهود الهادفة إلى إنهاء الأزمة الليبية من خلال حل ليبي – ليبي يحفظ وحدة وسيادة ليبيا، ويصون أمنها وأمن جوارها، ويحقق طموحات شعبها في الوصول إلى تنظيم الانتخابات في أسرع وقت ممكن لتحقيق الاستقرار السياسي الدائم”، وتركت للسياسيين والمحللين فرصة التعليق على العبارات الواردة في النص الختامي، بما يتجاوب مع مواقف ورؤى وقناعات هذا الطرف أو ذاك.
لكن رجل الشارع البسيط يعلم جيدا أن الفقرة التي تخص ليبيا في بيان القمة العربية لا تخرج عن دائرة المجاملات المعتادة والمرسلة والتي لا فائدة ترجى من ورائها، وهي في الحقيقة أفضل ما تم التوصّل إليه بين الأنظمة العربية من محاولات لتجاوز الخلافات في وجهات النظر حول الوضع العام في ليبيا والموقف مما يدور على أرضها من صراعات ومواجهات وتنافس على النفوذ والاستقطابات بمفردات للاستهلاك الإعلامي ولملء الفراغات التي قد تحدث فتحرج الأنظمة أمام نفسها وأمام شعوبها وأمام الرأي العام العالمي.
عندما كانت القمة تنعقد في الجزائر، كان هناك الكثير من التحركات التي تشير إلى أنه لا أمل في التوصل، خلال المدى المنظور على الأقل، إلى بوادر حل سياسي أو اتفاق على موعد لتنظيم الانتخابات التي أصبحت بقدرة قادر في مقدمة الاهتمامات المحلية والإقليمية والدولية، وكأنها المفتاح السحري الذي سيحل جميع القضايا ويوحد جميع الأطراف ويطيح بكل العقبات.
قائد الجيش الجنرال خليفة حفتر يعلن من منطقة الجفرة بوسط البلاد عن اقتراب موعد اتخاذ ما أسماه القرار الحاسم بإرادة شعبية خالصة لتحديد المسار نحو استعادة الدولة، ويضيف بالكثير من الحزم أن الوقت ليس في صالح أطراف تسعى لإدارة الأزمة دون حلها بهدف إطالة عمرها بحجج واهية، معتبرا أن المشهد الليبي بات يشهد حراكا شعبيا يتنامى لإحداث التغيير الجذري، ومشيرا إلى أنه “لم يعد بوسع الليبيين إلا الاعتماد على أنفسهم لتقرير مصيرهم بإرادتنا الحرة، مع كامل تقديرنا لكل الجهود المحلية والدولية”.
كلمات حفتر حملت مؤشرات على أن سلطات شرق ليبيا لم تعد مستعدة للصمت على الخروقات الفادحة التي ما انفك الدبيبة يرتكبها في تحدّ واضح للتوافقات الحاصلة سواء فوق الطاولة أو تحتها، فلولا قيادة الجيش ما كان لملتقى الحوار السياسي أن يفرز في فبراير 2021 السلطات التنفيذية الحالية في طرابلس والمتمثلة في المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها، وما كان للدبيبة أن يصل إلى مكتبه الحالي في طريق السكة.
يدرك حفتر أن أبرز أهداف الدبيبة وحلفائه حاليا هو الدفع بالبلاد إلى حرب جديدة يكون للأتراك دور حاسم فيها، ويكون منجزها الأول تقليص دور الجيش وإخراجه من المناطق الغنية بالنفط سواء في حوض مرزق أو في الواحات أو في الهلال النفطي، والتضييق عليها بين مرتفعات الجبل الأخضر وصحراء الكُفرة، وبذلك يتم القضاء نهائيا على الطموحات السياسية لقائده العام.
الدبيبة كان قد وطّد مؤخرا علاقاته بأنقرة عبر الاتفاقيات الاقتصادية والأمنية والعسكرية، ومنها اتفاقية التعاون في مجال الطيران التي ستجعل الضباط الأتراك جزءا من منظومة سلاح الجو في مناطق نفوذه بالعاصمة والمنطقة الغربية، كما أن صفقة الطيران المسيّر تصب في ذات الاتجاه. ولا يخفى على الليبيين أن الطائرات التركية المسيرة هي التي أطاحت بأحلام حفتر في السيطرة على العاصمة، وحالت دون نجاح حلفاء فتحي باشاغا في تمهيد الطريق أمامه بما يتيح له فرصة الوصول إلى العاصمة والسيطرة على مقاليد الحكم فيها.
ليس بعيدا عن ذلك السياق، نجد أن مجلس الدولة الاستشاري المكون من بقايا المؤتمر الوطني العام المنتخب في 2012 بعد تدويرها وفق اتفاقية الصخيرات في ديسمبر 2015، قد أصدر قاعدة دستورية تمنع حفتر من الترشح للانتخابات الرئاسية، ليس بنص مباشر، ولكن بإقرار حظر الترشح عن العسكريين وأصحاب الجنسيات المزدوجة، وذلك في انقلاب واضح على القانون الخاص بانتخاب الرئيس الصادر عن مجلس النواب في 2021، وفي إشارة بيّنة إلى أن خالد المشري تخلى عن اتفاقه المعلن في الرباط مع عقيلة صالح والذي كان يخص التعيينات القيادية في المؤسسات السيادية، إذ أن صالح، وإن كان لا يبدو على وفاق دائم مع حفتر، ويعتبر نفسه الأحق بكرسي الرئاسة، فإنه لا يستطيع الخروج عن قيادة الجيش التي منحته مجالا فسيحا للاستقواء بها، وللتحصّن بمساحات نفوذها، وللبقاء في منصبه منذ العام 2014.
لقد كان ترشح حفتر أحد أبرز أسباب إلغاء السباق الرئاسي للرابع والعشرين من ديسمبر 2021، فالإخوان وثوريو فبراير الراديكاليون والقادة الجهويون في المنطقة الغربية وأمراء الحرب وزعماء الميليشيات وغيرهم، يعتبرون أن وصول حفتر إلى سدة الرئاسة أمر دونه الموت، فهو من قاد معركة ضد الجماعات المسلحة التي استولت على سلطة الميدان في البلاد بعد الإطاحة بالنظام وتفكيك أجهزة الدولة بدعم الناتو في 2011، وهو الذي أعلن عداءه للإسلام السياسي بكل مسمياته، وانضم إلى صفوف منظومة الاعتدال العربي التي تضم بالخصوص مصر والإمارات والسعودية، وأكد رفضه المباشر للدولة الدينية ولتنظيم الإخوان، وفتح الباب أمام المصالحة الوطنية الفعلية، وأعاد العسكريين السابقين إلى وظائفهم، وقام بالكثير من المبادرات الأخرى التي أججت ضده كل من يعتبرون وجوده في السلطة إقصاء لهم، وكل من تتعارض مصالحهم الداخلية والخارجية مع ثوابته الفكرية والعقائدية ومصالح حلفائه في ليبيا والمنطقة.
خلال الفترة الماضية، تنقل الجنرال حفتر إلى عدد من مدن شرق وجنوب ووسط ليبيا، وتحدث بقلب مفتوح مع أنصاره ومع من يود ضمهم إلى صفوف أنصاره، وبدا واضحا أنه يستعد لتحرك ما قد يكون سياسيا وقد يكون عسكريا، وقد يدخل في إطار تحول حاسم نحو التقسيم الفعلي للبلاد، والعودة بها إلى ما قبل 1951، ولاسيما أن ما يحدث في طرابلس وما يصدر بالذات عن الدبيبة وأركان حكومته، يشجع على الحرب من لديه ضمانات بالانتصار فيها، ويشجع على التقسيم الفعلي للبلاد من يتحرك وهو يمتلك نفوذا على الأرض ودعما من الشعب البائس المقهور والمحروم من ثرواته ومقدراته.
أنصار حفتر يقولون إن إمارة برقة ظهرت إلى الوجود عندما أعلن إدريس السنوسي استقلالها وبدستور مستقل من جانب واحد في الأول مارس 1949 بدعم من المملكة المتحدة، لتصبح الدولة المستقلة الثامنة بين البلدان العربية آنذاك، ويرون أن ما يدور في طرابلس من انفراد بالسلطة والثروة والقرار لا يساعد إلا على التقسيم، وإذا كان الدبيبة يستقوي بالأتراك وقواتهم ومسيراتهم ومرتزقتهم، فإن حفتر لديه القوى التي يمكن أن يستقوي بها عندما يرى أن لحظة الانفصال المؤلم قد حانت، خصوصا وأن الوضع الحالي لا يمكن أن يستمر أكثر مما استمر في عبثيته المقيتة التي تتجسد بالخصوص في شعبوية الدبيبة وفريقه السياسي.